المعرفة النبوية في فلسفة الفارابي
المعرفة النبوية في فلسفة الفارابي
بحث الفارابي موضوع النبوة والسعاده الحكميه أي التحقق من النبوة والحكمه في باب السعاده والرياسات في المدينة الفاضلة حيث يصل الانسان إلى استكمال القوة المتخيلة والقوة الناطقة في جزئيها النظري والعملي ويحقق الاتصال المباشر بالعقل الفعال يرى الفارابي أن بلوغ السعاده يحتاج الى العلم بها واتخاذها غاية في السلوك والعلم بكل ما يجب عمله ونيل ذلك الغرض ثم العمل بها، وما دام أفراد النوع الانساني ليس في فطرهم أن يعلموا السعادة من تلقاء أنفسهم ولا أن يعملوا من اجل ذلك وجب وجود من يرشدهم ويعلمهم هذا السبيل ويرفع عنهم العوائق التي تمنع من الوصول الى السعادة فمن يكون هذا المربي والمرشد والمعلم؟
يجب ان يكون هذا المربي والمرشد هو الرئيس الأول بمعنى لا يكون مرؤوسا لأي أحد على الإطلاق فكما يقول عنه الفارابي أي عن هذا الرئيس والمرشد والمربي يقول: "لا يحتاج ولا في شيء أصلا ان يرأسه انسان بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل ولا تكون له به حاجة في شيء الى انسان يرشده"[1] .
كما ان هذا الرئيس ممن استكمل كل قواه وحصل له الكمال بالفعل فيقول الفارابي فيه: "انما يكون ذلك في اهل الطبائع العظيمه الفائقه اذا اتصلت نفسه بالعقل الفعال وانما يبلغ ذلك بان يحصل له اولا العقل المنفعل ثم ان يحصل له بعد ذلك العقل الذي يسمى المستفاد فبحصول المستفاد يكون الاتصال بالعقل الفعال"[2]
فما المتخيلة؟
هي القوة الثانية التي يجب على هذا الرئيس أن يستكملها فالقوة المتخيلة لها دور مباشر في تعيين حقيقة النبوة عند الفراغ القوة المتخيلة تأتي في الرتبة الوسطى بين القوة الناطقة والقوة الحاسة بحيث تكون القوة المتخيلة خادمة للقوة الناطقة بجزئيها النظري والعملي لأن القوة الناطقة هي الأعلى وتأتي كذلك القوة المتخيلة برتبة أعلى من القوة الحاسة فهي تتلقى ما تورده الحواس من محسوسات[3] .كما تتعاون المتخيلة مع قوى أخرى كالقوة النزوعية والقوة الغادية عندما تتوقف القوى الثلاث وهي الناطقة والحاسة والنزوعية عن النشاط لعارض مثل عارض النوم يتفسح المجال للقوة المتخيلة فتستقل بنشاطها الخاص بها والذي يتمثل في التركيب بين رسوم المحسوسات الحاصله فيها والفصل بين بعضها وكذلك تحاكي رسوم المحسوسات بالحواس الخمسه وكذلك محاكاة جزئيات القوة الناطقة ومحاكاة ما ياتي من القوة النزوعية والقوة الغاذية.
فهي مثلا تحاكي المعقولات الكامله كالواجب تعالى والموجودات الروحية العالية بأفضل المحسوسات وأكملها مثل المناظر الحسنة فتحاكي هذه الموجودات بمعاني العظمة والجلال والبهاء والحسن الذي ليس له نظير في عالم الموجودات المألوفة فيحصل في النفس معنى التعظيم والتسبيح والشوق وغيرها من مشاعر القوة النزوعية.
كيف تحدث عملية المحاكاة؟
ما يفيضه العقل الفعال على القوة الناطقة من مقولات كماهيات الموجودات ومن جزئيات كأحكام العقل العملي من تحسين وتقبيح؛ فإن ما يفيضه العقل الفعال، يفيض منه على القوة المتخيلة فتقبل القوة المتخيلة المعقولات بما يحاكيها من المحسوسات أو رسومها التي ارتسمت فيها مركبة أو محللة وتقبل الجزئيات بأن تتخيلها كما هي وأحيانا تحاكيها بمحسوسات أخرى فالذين لهم باع في تعبير الرؤى والمنامات يجب أن يكونوا فقهاء بآليات عمل المتخيلة ومحاكاتها حتى يتمكن لهم فهم رموز الرؤى والمنامات وإرجاعها إلى أصولها الواقعية.
سؤال مهم وهو: ما هي فيوضات العقل الفعال على القوة المتخيلة؟
جوابه كما يبين الفارابي أن العقل الفعال يعطي القوة المتخيلة من الجزئيات بالمنامات والرؤى الصادقة وهذا شق القوة الناطقة العملية أي الجزء العملي الذي له علاقة بالسعادة وما يحققها كالحسن والقبح والجمال ويعطيها من المعقولات الكلية بأن تقبلها بمحاكياتها بالكهانات على الأشياء الإلهية وهذه الكهانات قد يكون بعضها في اليقظه وقد يكون بعضها في النوم وقد تكون في اليقظة إلا أنها قليلة وقليل من الناس من يقبل هكذا أمور من العقل الفعال[4].
فيما يخص القوة المتخيلة التي هي للنبي الموحى إليه فهي متخيلة قوية وكاملة على خلاف بقية الناس وحتى على خلاف الحكماء غير الانبياء، فهذه المتخيلة لا تؤثر فيها الحواس فتستولي عليها وتشغلها عن عملها الخاص بها، كذلك هذه المتخيلة لا تطغى عليها القوة الناطقة فهي أي القوة المتخيلة عند النبي مع تفاعلها مع الناطقة والحاسة لها جزء مستقل عنهما تسخره في أفعالها الخاصة بها كما في النوم غير أن متخيلة النبي لها الاستقلال في فعلها الذي يخصها حتى في اليقظة وعملها الذي يخصها سبق أن حددناه أي في التركيب والتحليل بين رسوم المحسوسات ومحاكاة المعقولات والجزئيات.
كيف تعمل مخيله النبي او لنقل كيف يحدث الوحي عند النبي؟
تتم عملية الوحي بأن يفيض العقل الفعال المعقولات إلى القوة الناطقة بجزئيها النظري والعمل فتتخيله المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية؛ فإن الأمور المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة فإن حصلت رسومها في الحس المشترك انفعلت عن تلك الأمور المتخيلة فيحصل في البصر تلك الرسوم في الهواء المضيء للبصر فاذا حصلت تلك الرسوم في الهواء المضيء للبصر عاد ما في الهواء وارتسم في البصر وانعكس هذا المبصر في الحس المشترك ثم إلى المتخيلة ولأن الكل في اتصال فإن ما أفاضه العقل الفعال يصبح مرئيا لهذا النبي، والذي له الدور في ربط الأمور وجعلها واقعا هي المتخيلة الفعالة لا المتخيلة المنفعلة[5].
اذن فمتخيلة النبي فعالة وتجعل ـ بفعل استقلالها ـ الموحى مرئيا ومسموعا ومحسوسا وكل هذا يحدث يقظة وفي المنام لا في المنام فقط، فإن المتخلة تمكن الحواس والبصر خصوصا من رؤية اشياء عجيبة تحاكي المعقولات وهذه الاشياء لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات.
خلاصة الكلام أن المتخيلة الكاملة بما لها من قوة المحاكاة واستقلال عن سلطة العقل والحواس يمكنها أن تجعل المجرد محسوسا والمحسوس مجردا. فكمثال يوضح هذا أن الأنبياء عليهم السلام يرون العقول المفارقة للمادة والمنزهة عن الجسمية، يرونها ملائكة ذات اجنحة أو ملائكة في صور إنسانية جميلة كما حدث مثلا مع جبرائيل عليه السلام الذي كان يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وهو عينه جبريل بينما الصحابة رضي الله عنهم يرونه الصحابي دحية الكلبي.
نلاحظ أن من لوازم الإدراك بقوة المتخيلة أن النبي يستطيع أن يتعرف على الصفات التي يلوح من ظاهرها أن تبشيهية كإثبات اليد والوجه والضحك والتبشبش والغضب والفرح في حق الله تعالى كما يمكن للنبي أن يكشف عن الصفات التنزيهية لذات الحق تعالى، بينما ناطقة الفيلسوف والحكيم لا تقبل التوصيفات التشبيهية لأن ذلك يخل بمقام التنزيه. فالفيلسوف لايقبل بالصفات الخبرية وإن ثبتت في النصوص الدينية ونظرا لقبوله بمقام النبوة وأنها ثابتة وأن المعرفة النبوية ثابتة فإنه ينزع إلى التأويل أي تأويل الصفات الخبرية، وإلا فالعقل بما هو عقل فلسفي وحكمي لا يقبل بها. وهكذا التشريعات والتكاليف فإن العقل بمفرده لا تنكشف له مفرداتها مثلا الصلاة والزكاة والحج وتفاصيل العبادات وهذه بالنسبة للفارابي موكولة إلى القوة المتخيلة النبوية التي تستطيع أن تنزل الحقائق المجردة في قوالب حسية وجزئية بيناما العقل يتعرف على الكليات منها.
لذلك فإن النبي بإمكانه الوصول إلى كل طبقات الناس ورفعهم إلى مستوى الكمال وتحقيق سعادتهم بينما الحكيم لا يمكنه سوى مخاطبة من تحصلت له قوة التجريد وكملت قوته النظرية، لعلنا نستطيع أن نفهم الصعوبة التي وجدها أبسال في قصة حي ابن يقظان للفيلسوف أبي بكر ابن طفيل في هداية عوام الناس إلى الحكمة، فحي بن يقظان طلب من سلامان أن يوصله إلى قريته ليعلم الناس سبيل السعادة الحكمية وتعليم باطن الدين لكنه فشل في توضيح بواطن الأحكام الشرعية والكشف عن حقائق الشريعة والمعارف الإلهية الكبرى لعوام الناس وفشل في التعليم. وتوقف عند إعذارهم وعدم الخوض معهم في مثل هذه المعارف وتركهم في مستواهم العام، ولعل قصة حي بن يقظان التي ألفها ابن طفيل بغرض توضيح سبيل الحكمة المشرقية أثبتت أن سبيل الأنبياء يدرك ما يعرفه العقل وما لا يمكنه ذلك وهي بهذا الاعتبار تعطي لمقام النبوة رتبة أعلى من رتبة الحكمة من غير نبوة.
خاتمة:
ما يمكن الخلوص إليه في مجال نظرية المعرفة في الفلسفة الاسلامية وسيما في فلسفة الفارابي أن المعرفة تبلغ تمامها عندما تكون تحت قيادة العقل باعتباره أعلى قوة إدراكية نفسية، وهذا لم تستقل فيه الفلسفة الاسلامية بل أغلب الفلسفات ذات الاتجاه العقلي تنحو هذا المنحى.
نميز في فلسفة الفارابي ثلاث مستويات معرفية وهي الحسية والعقلية والنبوية. وواضح في كتابات الفارابي سمو المعرفة النبوية. لكن يجب أن نفهم بأن الفارابي عندما يتحدث عن النبي فهو يدمج فيه شخصية الحكيم لأن النبي كملت فيه قوتان إدراكيتان الأولى القوة العقلية بحيث وصل إلى رتبة العقل المستفاد الذي هو في اتصال دائم مع العقل الفعال بل حصل رتبة العقل الفعال، وثانيا أن النبي يستقل عن الفيلسوف بقوته المتخيلة الفعالة التي تستطيع إدراك الحقائق الإلهية والإنسانية والطبيعية في إطار صور ومحاكيات.
طبعا الفلسفة الاسلامية شأنها شأن كل الفلسفات الميتافيزيقية تنحو في مجال نظرية المعرفة منحى الفلسفات اليقينية، أي التي ترى إمكان المعرفة وأن الحقيقة لديها وجود موضوعي قبال للتحقق من صدقه.
[1] الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 116
[2] الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 117
[3] الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 103.
[4] الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 104.
[5] الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 121.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا