الاتجاه الصوفي والعرفاني وبعض خصائصه
الاتجاه الصوفي والعرفاني وبعض خصائصه
في التصوف والعرفان نميز وجود جانبين بينهما علاقة ضرورية لا تنفك إحداهما عن الأخرى، بحيث لا يمكن تصور وجود أحداهما دون الأخرى، فمن جهة هناك السلوك المبني على الذكر والمجاهدة وتزكية النفس لأجل صفاء الباطن وفراغ القلب ليكون أهلا لمعرفة الله والحضور بين يديه، أما الجانب الثاني من التصوف فهو المعرفة أي تكوين رؤية وجودية شاملة حضورية لله تعالى والإنسان والعالم، وتكون هذه الرؤية بطريق الكشف والمشاهدة.
يسمى هذان الجانبان بالسير والسلوك من جهة والحقائق من جهة أحرى، كذلك يسمى في بعض الاصطلاحات ووفق دراسات فلسفية بالعرفان العملي والعرفان النظري تمثيلا له بالحكمة النظرية والحكمة العملية، طبعا مع تباين في علاقة العملي والنظري في العرفان مع علاقة النظري والعملي في الفلسفة.
يقول العارف بالله "حيدر الأملي" في بيان طبيعة المعرفة الصوفية: " اعلم أن العلوم كلها تنقسم إلى قسمين، رسمي اكتسابي وإرثي إلهي، فالعلم الرسمي الاكتسابي يكون بالتعليم الإنساني على التدريج، مع نصَب قوي وتعب شديد في مدة طويلة. والعلم الإرثي الإلهي يكون تحصيله بالتعليم الرباني بالتدريج وغير التدريج مع روح وراحة في مدة يسيرة، وكل واحد منهما يحصل دون الآخر، ولكن الإرثي يفيد دون الآخر والكسبي لا يفيد دون الإرثي، كعلوم الأنبياء والأولياء فإنها تفيد بدون العلم الظاهر".
(ويقصد بالتدريج في التعلم و عدم التدريج في التعلم، لما يعرف في التصوف والعرفان بالرفة بطريق السير والسلوك الروحي والمعرفة بطريق الجذب من غير سلوك).
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي في تبيان طريق تحصيل العلم الصوفي: "فينبغي للعاقل أن يخلي قلبه من الفكر إذا أراد معرفة الله تعالى من حيث المشاهدة، ومن المحال على العارف بمرتبة العقل والفكر أن يسكن ويستريح، ولا سيما في معرفة الله تعالى. ومن المحال أن يعرف ماهيته بطريق النظر، فمالك يا أخي تبقى في هذه الورطة ولا تدخل طريق الرياضات والمجاهدات والخلوات التي شرعها رسول الله (ص) فتنال ما نال من قال فيه سبحانه وتعالى: " عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (الكهف/ 65)"
فالطريق اللائق بمعرفة الله بهذا الوجه ينحصر في المجاهدة والرياضة المعنوية، لذلك عدل أهل هذا الاتجاه عن طريق الفكر والنظر العقلي كما فعل المشاؤون، وهذا لأسباب منها:
أسباب إعراض أهل العرفان عن الفكر في تحصيل المعرفة بالله
– أن طريق البرهان والعلم الظاهر لا يفيد النفس شيئا ولا يسكن من روعها، لأن احتمال الخطأ والاشتباه قائم على أي حال. يقول الشيخ الأكبر: "فمادام الفكر موجودا فمن المحال أن يطمئن ويسكن، فللعقول حد تقف عنده من حيث قوتها في التصرف الفكري، فإذن ينبغي للعاقل أن يتعرض لنفحات الجود ولا يبقى مأسورا في قيد نظره وكسبه، فإنه على شبهة في ذلك".
– غاية الصوفي أن يصل إلى الحقائق ويشاهد جمال الحق وعالم الحقائق على ما هي عليه، بينما غاية طريق العقل والاستدلال هو الاطلاع على الحقائق من خلال المفاهيم والصور النظرية."
أما غاية ما يصل إليه صاحب النظر الفكري والاستدلال هو "انتقاش النفس بصورة الوجود على نظامه وكماله وتمامه، وصيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني".
رغم أن الصوفي يصل إلى مرتبة انكشاف الحقائق في قلبه ووضوحها بصورة أكمل، إلا أنه يستعصي عليه نقل مكاشفاته العرفانية لأنها غير قابلة للبيان في ساحة الغرباء لأنها أصلا لم تحصل من خلال الاستدلال حتى يستدل عليها لدى أهل الفكر والنظر العقلي، فهي من طينة الذوق والشهود لكن شرط فهم الخطاب الصوفي والعرفاني هو صفاء القلب لا التمكن النظري الفكري.
حاولت الفلسفة أن تقترب من التصوف والعرفان من خلال استثمار مفاهيم التصوف ومحاولة الاستدلال على ما أمكنها ذلك ولعل جهود مدرسة الحكمة المتعالية تدخل في إطار الاستفادة من التصوف وقد استطاعت هذه المدرسة من خلال دراسة كتب الشيخ الأكبر أن تبدع في نظريات فلسفية لم يسبق للفلسفة أن كشفت عنها منذ أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة.
بعض خصائص الاتجاه العرفاني
![]() |
بعض خصائص الاتجاه العرفاني |
وحدة العلاقة بين الظاهر والباطن
يرى الاتجاه الصوفي والعرفاني أن الفصل بين والظاهر والباطن ينقص من قيمة الحقيقة ذلك أن الحقائق تتمتع بثنائية بينها تكامل هذه الثنائية هي الظاهر والباطن بمعنى أن لكل ظاهر باطن ولكل باطن ظاهر والعلاقة بينهما هي علاقة تلازم وحضور، على عكس الاتجاه الباطني الذي يرى أن الظاهر تشويه لصورة الباطن بمعنى أن معرفة بواطن الأمور تدفعننا إلى التخلي عن ظواهرها فمثلا هذا الاتجاه أي الباطني يرى أن العبادات مقدمة لمعرفة الحقائق والاقتراب منها فكلما حدث تمكن من معرفة الأسرار يجب التخلي عن العبادات لأن العبادات بمثابة قشور والأسرار بمثابة اللب. فقوله تعالى بحسب هذا الاتجاه (الباطني المخالف للاتجاه الصوفي) "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (النحل/ 99) معناه أن العبادة أمر مؤقت سرعان ما يجب التخلص منه بعد معرفة أسرارها. بينما الاتجاه الصوفي يفهم أن العبادة تورث مقام العبودية بما يعني أن العبادة لا تزول بل تشتد وتبقى ملازمة للمعرفة.
السلوك شرط للتحقق بالمعرفة
يؤكد هذا الاتجاه على العمل ويراه سبيلا أوحد للوصول إلى المعرفة لأن المعرفة من دون سلوك جهل وحجاب عن الحقيقة. بناء على البديهيات القرآنية كقوله تعالى: واتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ (البقرة/282) وقوله أيضا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت/69) يستفيد هذا الاتجاه من القرآن الكريم أن المعرفة الحقيقية والتي يكلف بها العباد هي المعرفة الناتجة عن التقوى ومجاهدة النفس.
الغاية من التصوف هو تحقيق الوحدة مع الله ليس بمعنى الحلول والاتحاد
غاية الصوفي الوصول إلى معرفة الله حقا وهذا لا يتم إلا بالفناء التام بحيث يتخلى الصوفي من رؤيته وجوده مستقلا عن الوجود الإلهي، فهو يصل إلى الإقرار بوجود الله وحده بما يعني أن كل الموجودات معدومة من حيث ذاتها ولا وجود لها من نفسها ليس تصورا وفكريا فقط بل ذوقا ومعاينة. وهذا الذي تختصره وحدة الوجود العرفانية.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا