علم العقل وعلم الأسرار
العقل عقلان
في كتاب المسائل والذي ذكره في بداية الفتوحات، يتحدث الشيخ الأكبر عن مرتبتين للعقل وقدرة كل مرتبة على تحصيل ما يليق بها، "فإن للعقول حدا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة، فما لها لا تقف عند حدها، فما هلك امرؤ عرف قدره"[1]، فهناك مرتبة العقل الدنيا وهي كونه مفكرا، وهناك مرتبته العليا وهي جهة القبول عن الله تعالى، أي العقل بما هو مفكر والعقل بما هو قابل، ولا شك أن جهة كونه مفكرا أو آخذا علومه عن الفكر، هي غير جهة كونه قابلا يقبل عن ربه ما شرعه وعلمه.
فسبب الخلط والتخبط الذي وقع فيه المتفكرة ومنهم الفلاسفة خصوصا فريقا من المشائين الذين اعتبروا أن لا طريق محقق للعلم بالإلهيات سوى البرهان، وهنا نستثني جملة من فلاسفة الإسلام وخصوصا أتباع الحكمة المشرقية التي أسس لها ابن سينا وتمم التحقيق فيها الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل من خلال رسالته "حي ابن يقظان"، طبعا لا نغفل مدرسة حكمة الإشراق ومدرسة الحكمة المتعالية.
إذن سبب الخلط والتخبط هو عدم فهم هؤلاء المتفكرة من فلاسفة وعلماء الكلام عن الله دعوته الناس إلى التفكر والنظر لمعرفة الله تعالى، فالله تعالى كما يوضح الشيخ الأكبر " كلف هذا العقل معرفته سبحانه ليرجع إليه فيها لا إلى غيره، ففهم العقل نقيض ما أراد به الحق بقوله تعالى: "أولم يتفكروا" فاستند إلى الفكر وجعله إماما يقتدى به، وغفل عن الحق في مراده بالتفكر أنه خاطبه أن يتفكر، فيرى أن علمه بالله لا سبيل إليه إلا بتعريف الله، فيكشف له عن الأمر على ما هو عليه، فلم يفهم كل عقل هذا الفهم إلا عقول خاصة الله من انبيائه وأوليائه... وعلموا أن المراد منهم رجوعهم إليه في ذلك... فرجعوا إلى الله في المعرفة به وتركوا الفكر في مرتبته... فوهبهم الله من معرفته ما وهبهم وأشهدهم من مخلوقاته ومظاهره ما أشهدهم، فعلموا أنه ما يستحيل عقلا من طريق الفكر لا يستحيل نسبة إلهية"[2].
سبيل سلامة عمل العقل
فالسبيل الوحيد للعقل في مجال العلم بالإلهيات هو قبول التعليم الإلهي والتعمل بالشرع، وهذا المعبر عنه بالعقل القابل، لأن هذا الأخير لا يجعل دليل الفكر طريقا للتصديق بقدر ما يخرقه بسبب تقرير الشرع خلاف ما أقره الدليل، وهذا دعوة للَجْم الفكر عن تقحم ميدان العلم بالإلهيات الذي لا مقام له فيه، ودعوة بالمقابل إلى التسليم بمقررات التعليم الإلهي.
ولعل الزلة الكبيرة التي وقع فيها أهل النظر من علماء الكلام وبعض من فلاسفة المشاء، هي عندما أولوا ما سمعوه من النص الديني فيما يخص الحقائق الإلهية وما يتعلق بالنشأة الأخروية، بسبب أنهم لم يجدوا دليلا من أفكارهم يوافق مقررات الشرع في مسائل الإلهيات بالخصوص، "أشرنا فيما مضى إلى أن العقل قد يرى في بعض الأحيان استحالة أمر ما من حيث النظر الفكري، إلا أنه يقبله لأن الله قد وهبه العلم به، كما سبق أن ذكرنا بأن عقول الأنبياء والأولياء تقبل الأخبار الإلهية، وأنها ترجح الوحي على الفكر والنظر في معرفة الله"[3].
فيعتبر التعليم الإلهي ـ الذي يفرض على العقل أن يقبل إذا أراد السلامة، كما يقبل من الفكر فيما يتعلق بالكونيات ـ هو من النوع الذي يتجاوز طور العقل، وهو الذي أفلح فيه أهل الله العارفين به تعالى، "علم العلماء بالله من الله ما لا تعلمه العقول من حيث أفكارها الصحيحة الدلالة... أنه وراء طور العقل. قال تعالى في عبده الخضر: "وعلمانه من لدنا علما"، وقال تعالى:" علمه البيان"، فأضاف التعليم إليه لا إلى الفكر، فعلمنا أن ثم مقاما آخر فوق الفكر يعطي العبد العلم بأمور شتى منها ما يمكن أن يدركها من حيث الفكر، ومنها ما يجوزها الفكر وغن لم يحصل لذلك العقل من الفكر، ومنها ما يجوزها الفكر وان كان يستحيل أن يعينها الفكر"[4].
تنتمي الفلسفة إلى علوم الفكر ولا شك في منظومة القرآن والعرفان ان الفكر مجاله الكونيات ولا يتعداها إلى ما فوق طورها لذا أوجبت علومهم الخطأ في الإلهيات رغم صحة نظرياتهم في بعض الكونيات لا كلها ما دام أن الكونيات لا تنفصل عن الإلهيات.
أقسام العلوم عند الشيخ
يقسم الشيخ الأكبر العلوم إلى ثلاثة أصناف أو مراتب علم العقل وعلم الأحوال وعلم الأسرار، فعلم العقل يقوم على النظر في الدليل على الحقائق والمعارف الصحيحة، وعلم الأحوال يقوم على الذوق وما يجده العالم به في نفسه من حكم، وعلم الأسرار هو أعم العلمين يتضمن قضايا عقلية وقضايا ذوقية بنحو أشرف وأعمق، يقوم هذا العلم على الفيض والتجلي الإلهي في الروع يختص هذا العلم بالأنبياء والأولياء، ومرتبته مما فوق طور العقل، وعلوم التصوف من علوم الأولياء التي تتجاوز طور العقل، يقول الشيخ الأكبر: "العلوم على ثلاثة مراتب ـ بحسب الشيخ الأكبر ـ علم العقل وعلم الأحوال وعلم الأسرار...
علم العقل وهوكل علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلوم ولهذا يقولون في النظر منه صحيح ومنه فاسد...و[علم الأحوال] والعلم الثالث علوم الأسرار وهو العلم الذي فوق طور العقل وهو علم نفث روح القدس في الروع يختص به النبي والولي وهو نوعان: نوع منه يدرك بالعقل كالعلم الأول من هذه الأقسام لكن هذا العالم به لم يحصل له نظر ولكن مرتبة هذا العلم أعطت هذا.
والنوع الآخر على ضربين: ضرب منه يلتحق بالعلم الثاني لكن حاله أشرف، والضرب الآخر من علوم الأخبار وهي التي يدخلها الصدق والكذب إلا أن يكون المخبر به قد ثبت صدقه عند المخبر وعصمته فيما يخبر به ويقوله، كإخبار الأنبياء صلوات الله عليهم عن ... فهذا الصنف الثالث الذي هو علم الأسرار العالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها وليس صاحب تلك العلوم كذلك، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات... وإنما يأتون رضي الله عنهم بأسرار وحكم من أسرار الشريعة مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب، ولا تنال أبدا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل من هذه الطرق "[5].
بهذا يظهر جليا مباينة علم الأسرار وهو التصوف والعرفان لعلم العقل والنظر العقلي، وهي مباينة شرف وإحاطة بمعلوماته، فحتى علم الفلاسفة يكون في دائرة العارفين بالله لكنهم لا يحصلونه بتوسط قواهم الفكرية بل طريقهم إليه بنحو الفيض والتجلي الإلهي.
تصور الفلاسفة للشريعةلعرض حقائقها
وهنا نكتة مهمة فيما يخص العلم بالشريعة، نجد أن الفلاسفة المسلمين كمثال، اقتربوا من الشريعة وحاولوا استكناه حقائقها سواء من خلا مناقشتهم الأمر في مجال الحكمة العملية، إذ نجد نظرية الفارابي في النبوة انتهت إلى أن واسطة النبي في تحصيل علومه من العقل الفعال هو مخيلته، كل ما هنالك أن هذه المخيلة ينالها عمل جبار من التطهير والصفاء، ليتلقى النبي الأخبار ويتحقق بتنزل الحقائق المجردة في صور مشخصة، كما نجد أن منتهى نظرية الفلاسفة في مجال الأخرويات رفض تعقل الإخبار الشرعي عن الحقائق بالنحو الذي وردت في النصوص الدينية، فاعتبروا أن الشريعة اعتبرت إدراك العوام فمشت الحقائق على مقتضى تصور العوام، لذا جاءت الكثير من الأخبار لتقريب الأذهان، وإلا فالحقائق الأخروية والإلهية بحسب هؤلاء الفلاسفة على هيئة مجردة لا تنال إلا بالعقول والأفكار الممتنحة في التفكر، فمثلا ابن سينا اعتبر الترغيب والترهيب في القرآن والسنة الهدف منه رفع همم الناس بلغتهم التي يحسنون.
في اعتقاد الفلاسفة لا يجوز التعامل مع النص الديني انطلاقا من الرؤية الحسية التي تعرضها اللغة العرفية التي انزل بها القرآن الكريم، وهذا الموقف نفسه الذي نجده عند أبي الوليد ابن رشد في اعتباره المعرفة على طبقات ثلاثة: طبقة الخطابيين الذين لا يصلح معهم سوى خطاب الموعظة الذي يحرك مشاعرهم ووجدانهم النفسي للقبول بالدين والعمل بأوامره واجتناب نواهيه، ولا حظ لهم فيما فوق ذلك، تلي هذه الطبقة، طبقة الجدليين من علماء الكلام الذي لا يينطلقون في معرفتهم إلا من مسلمات لم يتبينوها ولم يتحققوها، وبرروها ببعض من الأدلة الحجاجية التي ركزت على منطق الإلزام، وتاتي طبقة البرهانيين على رأس هذه الطبقات، وهي الطبقة التي حازت السبق في فهم النصوص الدينية والبرهان هو الحاكم في عملية الفهم.
نجد بالإضافة إلى ذلك مع ابن طفيل من خلال رسالته حي ابن يقظان، يظهر تحفظا من بعض التشريعات مثل تشريع الزكاة، وانتهى في خاتمة رسالته أن الشريعة أغلبها مصاغة لتوافق مدارك العوام وما على الحكيم غلا تأويلها بما يؤول إلى المخالفة في بعض الأحيان. فالمشكلة كل المشكلة في الخطاب الفلسفي في علاقته بالشريعة أنه اعتبر أن الشريعة كلها أمثال، ولا حقيقة لها من حيث الظاهر، ولكل مثل ممثول، بما يؤول إلى نفس المنحى التي نحته الإسماعيلية في تعاملها مع حقائق الشرع، مما أدى غلى نعتهم بالباطنية.
فحتى الفلاسفة بحكم تغليب حكم العقل وحصر المعرفة الأعلى به، وقعوا في نوع من الباطنية، ووقعوا كذلك في التشبيه من حيث راموا التنزيه، فهذا الكاشاني الذي تعاطى الفلسفة طلبا للحق وفي نهاية الجهد أصابه اليأس من طريق الفلاسفة، يقول:" تصورت أن البحث في المعقولات والعلم الإلهي وما يتوقف عليها، يوصل الناس إلى المعرفة ويخرجهم عن حالة الشك والتردد.
وقد قضيت مدة في تحصيلها واستحضارها إلى أن توصلت إلى أن الأفضل أن أجتازها، وحصل لي من ذلك وحشة واضطراب واحتجاب، إلى أن قررت وأصبح معلوما لدي أن المعرفة المطلوبة طور أفضل من العقل، ففي هذه العلوم، وإن تخلص الحكماء من التشبيه بالصور والأجرام، ولكنهم وقعوا في التشبيه بالعقول والمفارقات"[6]، هذا السير المعرفي هو نفسه الذي وجدنا تحققه لدى العارف بالله الشيخ ابي حامد الغزالي، والذي كانت نهاية طلبه اليقين التحقق بالكشف والشهود في مقولته المشهورة:
كان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر[1] ابن عربي ، كتاب المسائل، ص 4.
[2] ابن العربي، الفتوحات المكية، طبعة بيروت، ج 1، ص 126.
[3] جهانغيري، محي الدين ابن عربي شخصية العرفان الإسلامي، ص 213.
[4] ابن العربي، الفتوحات المكية، طبعة بيروت، ج2، ص 114.
[5] ابن العربي، الفتوحات المكية، ج 1، دار الكتب العلمية. ص 54، 55.
[6] نفحات الأنس من حضرات القدس، ص 487، نقلا عن العرفان النظري، ص 149.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا