طبيعة الإختلاف بين العرفان والفلسفة
الاختلاف بين علم العرفان والفلسفة في عين الاشتراك
أصل العرفان والفلسفة واحد
يعتبر الشيخ الأكبر أن علوم الفلسفة في أصلها ترجع إلى علوم الأنبياء من حيث المنبع ـ ولعل النبي إدريس عليه السلام ظهر في تعليمه بمظهر الحكمة ـ فما أودعه فلاسفة اليونان وأغلبية الحكماء في أسفارهم من علوم حقة يرجع أصالة إلى الأنبياء عليهم السلام الذين تكفلوا بتعليم الحكمة، لكن ابتعاد الفلاسفة عن زمان الأنبياء وعن القرب منهم بسبب من الثقة في العقل التامة، وتصفية علومهم من كثير من الأسرار بعنوان أنها أساطير أو لا يقبلها العقل، وبالخصوص في مجال الإلهيات فأُدخل التأويل فيما يقبل ليّ تلك النصوص لتوافق العقل وحذفت نصوص لم يتمكن العقل من تأويلها، وهذا الأمر ذكره تلميذه إسماعيل ابن سودكين حيث ينقل ما فهمه مما سمعه من شيخه ابن العربي: "عملتُ على كشف الحقيقة الإدريسيّة، وذلك أني نظرت إلى أحوال الفلاسفة ونـقـلهم عـنه (أي عن ما رُوي عن إدريس- عليه السلام-) واختلافهم عليه، فقلت أريد أن آخذ هذا الأمر من بابه وأعلم من أين دخل عليهم الغلط ، فأقمتُ في الخلوة ستة وثلاثين يوما، فعلمتُ الأمر منه على ما هو عليه. وحصلت لي من الصحف التي سلمت من صحائف داود اثنتي عشر صحيفة. ورأيت الغلط إنما دخل على القدماء من أنفسهم، وذلك أنه بلغهم من كلامه فتأولوا فاختلفوا، كما بلغنا نحن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحلّ هذا شيئا وحرّمه الآخر، على قدر قوّتهم في فهم الكلام "[1].
صحيح أن الفلسفة والعرفان يلتقيان في بعض العلوم والمعارف، ما دام موطن هذه المعارف هو الإنسان، ولا شك أن الإنسان بحسب الإدراك له مراتب كما تتراتب قواه النفسية من ناطقة وغضبية وشهوانية في مجال عمله، وبين عقلية وخيالية وحسية في مجال نظره، وهذا الأمر من المسلمات عند الحكماء، وعندما نتحدث عن الإنسان وخصوصا قواه الإدراكية فإننا لا نجوز اختزاله إلى سطح أحادي لا عمق له، وإلا كنا ممن يتغافل عن الإختلاف في معارف الناس بغض النظر عن طبيعة هذه الاختلافات سواء ما تناقضت عندما تكون في أفق واحد أو تعارضت تعارض أشرف وأخس، بحيث تأخذ العلاقة بين هذه المعارف خاصية قاهر ومقهور، كما هو الشأن بين حكم يستند إلى رؤية حسية وحكم يستند إلى رؤية علقية وحكم يستند إلى رؤية نبوية (الوحي)، فلا شك أن بين هذه الأحكام تفاوت يذعن فيها الأدنى للأعلى.
عندما يتعلق الأمر بالفلسفة والتصوف، في مجال المعارف، ففعلا كثير من المسائل التي تناولتها الفلسفة وجدنا لها حضورا في متون العرفان مما حدا بالبعض تحكيم الزمن في عملية التصنيف فحكموا بملكية الفلسفة لحقوق الأصالة وجعلوا من التصوف مقلدا للفلسفة في هذه المعارف.
وجه الفرقان بين العرفان والفلسفة عند الشيخ
![]() |
وجه الفرقان بين العرفان والفلسفة عند الشيخ |
يؤكد الشيخ الأكبر على مسألة الاشتراك في بعض الحقائق بين الصوفية والفلاسفة، لكن يحذر من الخطأ في المصدر، لأن المنهج الصوفي يوفر مجال معرفة الحقائق التي توصلت إليها الفلسفة من دون أن يلجأ الصوفي إلى أسفار الفلسفة لمعرفة هذه الحقائق، كما يوفر معرفة الأخبار وعلوم الأسرار، بل حتى هذه المعارف الفلسفية إن لم يحكم التجلي بثبوتها لا يأخذها الصوفي ولا يعتمدها وإن كانت من أوليات العقل الفلسفي، ففي معرض نقده لنظرية الطبيعيين القدامى القائلين أن الطبيعة تتألف من أربعة طبائع يؤكد الشيخ الأكبر أن مصدر علمه الطبيعي هذا لم يكن من البحث الفكري كما فعل الأوائل بل كان من جهة الكشف والفيض الإلهي.
يقول: "ثمة موجود خامس هو أصل لهذه الأركان، وفي هذا خلاف بين أصحاب علم الطبائع عن النظر، ذكره الحكيم في الأسطقسات، ولم يأت فيه بشيء يقف الناظر عنده. ولم أعرف هذا من حيث قراءتي علم الطبائع على أهله، وإنّما دخل به عليّ صاحب لي وهو في يده، وكان يشتغل بتحصيل علم الطب. فسألني أنْ أمشيه له من جهة علمنا بهذه الأشياء من جهة الكشف لا من جهة القراءة والنظر. فقرأه علينا فوقفت منه على هذا الخلاف الذي أشرت إليه، فمن هناك علمته، ولولا ذلك ما عرفت هل خالف فيه أحد أو لا، فإنّه ما عندنا فيه إلاّ الشيء الحق الذي هو عليه، وما عندنا خلاف . فإنّ الحق – تعالى- الذي نأخذ العلوم عنه بخلّو القلب عن الفكر، والاستعداد لقبول الواردات ، هو الذي يعطينا الأمر على أصله من غير إجمال ولا حيرة، فنعرف الحقائق على ما هي عليه "[2].
وفي السياق نفسه نجد أن الشيخ الأكبر يقر كلام الفيلسوف الإسلامي أبي الوليد ابن رشد، في حكمه على علم الكشف والمشاهدة والإفاضة الإلهية أنه من القضايا التي أثبتها العقل وهي هنا؛ أن طريق العلم لا ينحصر بالعقل والفكر، وقد يكون سبيله الكشف بسبب من التزكية وتصفية القلب ليكون محل المعارف اللدنية، يقول عنه الشيخ الأكبر: " فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا وخرج مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا"[3].
فالمسألة المثبتة هنا هي أن التزكية النفسية تهيء النفس لتلقي نور العلم بطريق الكشف والفيض الإلهي يقول أبو الوليد في هذا الباب :" وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية... وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوائق الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب... ونحن نقول أن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس. ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها بالناس عبثا، والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار، وتنبيه على طريق النظر"[4].
يعتبر ابن رشد أن إماتة الشهوات تعد شرطا لصحة النظر لا أن إماتتها هو عينه وبنفسه فقط مقتض للنظر والمعرفة، فهو في نظره طريق التصوف يعد مصحح للنظر الفكري وعامل مهم لتهيئة النفس الإنسانية للوصول إلى الأحكام الصحيحة لأن الشهوة من عوائق النظر، على اعتبار أن النظر الفكري هو وحده طريق المعرفة التي تليق بقوى الإنسان الإدراكية ولا مجال لطريق معرفي يخص الإنسان بما هو كذلك سوى النظر وغير ذلك لا دليل عليه كما يقرر فيلسوف قرطبة أبو الوليد ابن رشد ولذا نجده يعترض على الصوفية في اعتبارهم المجاهدات والقربات الشرعية طريقا للمعرفة، " هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة، وحث عليها في جملتها حثا، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم"[5]. توفي رحمه الله (ابن رشد) وهو يحمل معه سؤاله الذي كان قد طلب إجابته من الشيخ الأكبر، وهو "كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟"[6]، وخاصة شق النفي أي جهة التعارض بين الفلسفة والعرفان. الذي كان سبب حيرته وشكه فيما عنده بحسب الحوار الذي جرى بين ابن رشد والشيخ الأكبر كما نقله ابن العربي في بداية الفتوحات المكية.
حدود العقل المفكر
ليس للنظر العقلي، في مجال الإلهيات، من حظ سوى معرفته تعالى على وجه الإجمال سيما معرفة وجوده تعالى وذلك يعطيه دليل الفقر الوجودي الذي يفترض حتما وجود الله تعالى الغني، وذلك وفق قاعدة الإمكان الأشرف. أما علم الذات والصفات والأسماء والحقائق الإلهية فهذا طريقه الإيمان وتحقيق العبودية عملا وجهادا، "فالعلم بالله عزيز عن إدراك العقل والنفس إلا من حيث إنه موجود تعالى وتقدس، وكل ما يتلفظ به في حق المخلوقات أو يتوهم في المركبات وغيرها فالله سبحانه في نظر العقل السليم من حيث فكره وعصمته، بخلاف ذلك لا يجوز عليه ذلك التوهم ولا يجري عليه ذلك اللفظ عقلا من الوجه الذي تقبله المخلوقات، فإن أطلق عليه فعلى وجه التقريب على الأفهام"[7]، لأن قوة التفكير لدى الإنسان لا تتعدى طورها الذي يعلم ما شاركه في المرتبة وهي الكونيات، "وأما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلا في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحواس وأوائل العقل، ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر آخر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة، ولا مناسبة بين الله وبين خلقه.
فإذن لا يصح العلم به من جهة الفكر، ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى. وأما القوة العقلية فلا يصح أن يدركه (الهاء تعود على الحق تعالى) العقل، فإن العقل لا يقبل إلا ما علمه بديهة أو ما أعطاه الفكر، وقد بطل إدراك العقل له من طريق الفكر ولكن مما هو عقل، إنما حده أن يعقل ويضبط ما حصل عنده، فقد يهبه الحق المعرفة به فيعقلها لأنه عقل لا من طريق الفكر هذا ما لا نمنعه، فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها ولكن يقبلها، فلا يقوم عليها دليل ولا برهان لآناه وراء طور مدارك العقل"[8]
[1] ابن سودكين، لواقح السرار ولوائح الأنوار، من معارف الشيخ محيي الدين ابن عربي، تح: عبد الباقي مفتاح، دار نيوى، دمشق، ط1، ص ص 152-153
[2] ابن العربي، الباب الثاني من الفتوحات المكية، نقلا عن: عبد الباقي مفتاح، الفرقان بين العرفان الصوفي والفلسفة، بحث لم يطبع بعد.
[3] ابن العربي، الفتوحات المكية، ج1، ص 235.
[4] ابن رشد، أبو الوليد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1998، ص 117.
[5] ابن رشد، أبو الوليد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1998، ص 117.
[6] ابن العربي، الفتوحات المكية، ج1، دار الكتب العلمية، ص؟
[7] ابن العربي، الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، ج 1، 145.
[8] ابن العربي، الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، ج1، ص 147.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا