الكلام الإلهي من منظور الشيخ العلاوي
![]() |
الكلام الإلهي في بعده الإشاري |
لا ينظر العارفون بالله إلى كلام الله مجرد مسطور مثبت على مصاحف يقرأ ويلفظ ومن خلال لفظه تتصور المعاني التي جعلت هذه الحروف دليلا عليها، بل الكلام الإلهي وكل الحروف في حقيقة الأمر لهامراتب وجودية تعكس كل نرتبة حقيقتها الوجودية المجعوله لها، فالقرآن حقيقة وجودية لها مراتب وحضرات تنطق كل مرتبة عن حقيقة إلهية معينة.
القرآن ساحة التجليات الوجودية
في تفسير الشيخ العلاوي المستغانمي للقرآن الكريم من خلال كتابه البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور يتعرض لتوضيح الرواية القائلة أن للقرآن أربعة وجوه حد ومطلع وظهر وبطن فهو يقول : " ولا تحسبن هذه الوجوه توجد في كتاب الله من حيث الإجمال، كلا، إنما هي في كل آية وكلمة، إن لم نقل في كل حرف. فالحرف قرآن، كما أن عموم الكتاب قرآن، ولهذا قال جل ذكره: سنلقي عليك قولا ثقيلا. وقال: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. فعبر بالقول دون اللفظ، والكلام ليشمل الكلمة والحرف، لأن القول عام في جميع ذلك، فكل جزء من كتاب الله - وإن تجزأ- فهو ثقيل، باعتبار ما جمع فيه من المعاني التي تفوق الحصر"[1]، ويستدل على ذلك بقوله (ص): من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
ويستنتج أن الحرف بانفراده قرآن وبالتالي قول ثقيل بالنظر لما اشتمل عليه من المعاني، فهذه سيرة القوم في التعامل مع الحروف لما وجدوه في التنبيه النبوي له ولما عهدوه في تعاملهم مع القرآن الكريم ولعل رعايتهم بالحروف هي من طريق رعاية القرآن الكريم لها وقد ابتدأ سورا بحروف مقطعة مثل قوله تعالى ألم وحم وغيرها من الحروف المقطعة. اعتنى الصوفية بامتياز بالحروف ودلالتها ومرموزاتها - على غير ما نجده عند غيرهم من العلماء بما فيهم أهل السيمياء – لأنها في اصطلاحهم هي الحقائق البسيطة في ساحة العلم الإلهي قبل انصباغها بالوجود العيني، وقد قسمها الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل إلى حروف منقوطة وهي الأعيان الثابتة في العلم الإلهي، والحروف المهملة التي تتعلق بها الحروف ولا تتعلق هي بها، أما الشيخ عبد الرزاق القاشاني فاعتبرها الحقائق البسيطة من الأعيان، والحروف العاليات بمثابة الشؤون الذاتية الكامنة في غيب الغيوب وغيرها من الحقائق التي تنطوي عليها الحروف.
الكلام مستودع الوجود
ما أهل الصوفية للكشف عن مخبآت الحروف هو منهجهم في الحياة القائم على التفتيش عن المعنى الذي يجمعهم على الحقيقة ويبقيهم في مجال التحقيق الوجودي ذلك أن الوجود لا يخلو من الحكمة والقدرة ولا مجال للفراغ والعبثية بل ما من شيء يظهر في ساحة الوجود إلا وفيه إشارة إلى الوجود الحق وكل ما له علاقة به من صفات وآثار، حتى الوجود الرقمي والخطي ففيه ظهور للحق وللحق وجود وصفة وفعل وأثر فيكشف فيه عن خواص وأفاعيل ينعكس عنها تكميل وعلاج وإيجاد شريطة أن تتوفر خاصية الحضور الإلهي في المستعمل وهو هنا الإنسان المتحقق بالكمال الإلهي نجد من أدبياتهم قولهم أن "بسم الله من العارف ككلمة كن من الحق عز وجل فهي كلمة أثبتت المفعول، وضمير الباء أثبت الفاعل، وضميرها هو ضمير الإنسان الكامل أو نقول روح الوجود"[2]
فكيف إذا لقيت الحروف عناية إلهية بفعل الكتب المنزلة بها ، هذا يؤكد علمية هذا التوجه، فهذا الشيخ محيي الدين ابن عربي يصرح: "فاعلموا وفقكم الله أن الحروف سر من أسرار الله تعالى والعلم بها من أشرف العلوم المخزونة عند الله تعالى وهو العلم المكنون المخصوص به أهل القلوب الطاهرة من الأنبياء والأولياء وهو الذي يقول فيه الحكيم الترمذي، علم الأولياء"[3]. الظاهر هنا وجوب التحقق بالاستعداد لتلقي هذه الأسرار والتعامل مع الحروف باعتبارها مجلى لها كما بقية أشياء العالم، ويكمن هذا الاستعداد في التحقق بالطهارة المؤهلة للولاية لأن هذا العلم المذكور في النص شرطه الولاية ولنقل التحقق بالكمال الإلهي. هذا الاستعداد يقتضي مجاهدة تقضي بالخروج من الوهم الحاكم على الإنسان في حالة فرقه وشعوره بوجوده المستقل، أو لنقل الخروج من الكثرة المالئة لشعوره، فلا مناص لهذا الخروج إلا الفناء التام والكشف عن الحقيقة التي تقضي بوجود واحد وهو وجود الحق، ووهمية ما سواه ، إذ غيره ليس إلا هو.
بعبارة أخرى يغدو ما كان يتوهم وجودا، بمثابة مرآة حاكية عن الوجود الحق ذاتا وصفة وفعلا، فالكل مرايا تتفاوت فقط في الجلاء والكدورة لأن المرآة لاشيء ولا لاشيء فلا فرق بين حيوان وجماد ووجود رسمي أو وجود خطي أو لفظي إلا من جهة استعداده لحمل الأسماء الإلهية وهذا الاستعداد يحكمه الفيض الأقدس وما يقتضيه من عين ثابتة في علمه تعالى، فتحقق شرط الولاية يجعل الصوفي في مقام فهمي وعلمي يسمع فيه عن الله إذ لا غير في ساحة إدراكه فلا يرى إلا الله ولا يسمع إلا منه ولا يخاطب سواه، ويغدو الخلق حروف كلمات الحق تكشف عنه تعالى وعن كمالاته، "الحق عز وجل هو حقيقة الوجود لا محالة، ولولا ظهوره قي المكونات لما وقع عليها البصر لأن الأشياء من ذواتها العدم المحض، والبصر لا يتعلق بالمفقود. إياك أن يقع بصرك على الموجودات فتتوهم أنه وقع على وجودها لذاتها، وذا محال، إنما وقع على وجود موجودها الذي هو معار إليها، خلقها ثم ظهر فيها... حاصل الأمر أن الحق تبارك وتعالى هو حقيقة الوجود كما تقدم لعدم حقيقة تضاهي حقيقته ... أي ليس هناك إلا وجود الله فأينما تولوا فثم وجه الله وما على هذا البيان من مزيد"[4].
أينما تولوا فثم وجه الله
![]() |
أينما تولوا فثم وجه الله |
هذه الآية هي قاعدة وظابطة للإعتبار الصوفي فإذا كان الأين حرفا فثم وجه الله أي ثم حقيقة من حقائقه تعالى لا يجوز الغفلة عنها وبالتالي علم الحروف هو مجال تعبدي واجب في حق المحققين، وهنا ننبه أن الحروف عند العارف لا يجوز أن تحيل إلى الغير فما يهتم به أهل السيمياء في خواص الحروف العلاجية وغيرها هي اهتمامات خلقية تؤول إلى اللهو المذموم، كما أصبح الطب والحكمة عند الأكثرية مجال يؤول إلى اللهو ولا يجني منه متعاطيه إلا الجهل ما دام يحيل إلى الغير الذي هو محض عدم عند العارف، فلا غير والكل خير فلا شر.
" اعلم أن القوم لا يفهمون مخاطبة الخلق لهم إلا عن الله وذلك ما يقتضيه مقامهم لا يستعملونه في أنفسهم، فلا تستغرب يا أخي من فهمهم من الكلمة الواحدة الموضوعة على معنى مخصوص معنى آخر فإن ذلك عندهم من أشرف المقامات وأعظم الدرجات لكونهم يفهمون الأمور عن الله وقد أجمع أهل الله على أن الفهم عن الله على قدر مقام العبد عند الله، ولم يختلفوا في أن الكلمة الواحدة الدالة على معنى مخصوص قد يفهم منها معاني كثيرة لا تحصى وغرائب لا تستقصى... فإن القوم وإن اشتركوا مع غيرهم في ظاهر اللفظ فإنهم مختلفون في القصد كما أنهم اشتركوا في المشهود، واختلفوا في الشهود فكذلك اشتركوا في المسموع واختلفوا في الأسماع... فقد يسمع الصوفي ما لا يسمع الغير ولا ياخذ من القول إلا أحسنه ... ولهذا صاروا يسمعون غير الشيء المسموع حتى صار أحدهم يأخذ علمه من أصغر الأشياء في عيون الناس ولا حقارة عند هؤلاء الناس بل عندهم كل ما في الوجود يشير لوحدانية المعبود"[5]. وهذا ما نلمسه في اعتبارهم للأمور ، سيما الصوامت منها أو لنقل الأعجمية منها من كائنات حية و ما نعتبرها غير حية كالجمادات والحيوانات والمسطور والمسموع من الأمور.
[1] أحمد بن مصطفى العلاوي، البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط2، 1995، ص ص 17- 18.
[2] أحمد بن مصطفى العلاوي، منهل العرفان في تفسير البسملة وسور من القرآن،ص 14.
[3] ابن عربي محيي الدين، رسالة الحروف، ضمن، رسالتان في سر الحروف ومعانيها، تحقيق، عبد الحميد صالح حمدان، المكتبة الأزهرية
للتراث،(د.ط) (د.ت)، ص 14.
[4] أحمد بن مصطفى العلاوي، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط1، 1994، ج2، ص ص 21- 22.
[5] أحمد بن مصطفى العلاوي، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط3، 1985،
ص ص 16–17.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا