📁 آخر الأخبار

حكمة الإشراق عند شهاب الدين السهروردي

حكيم الإشراق السهروردي

عصر السهروردي:

تواجد السهروردي في عصر غير مستقر ولم يكن فيه هناك جو تسامحي في مجال الفكر والاعتقاد، حيث كانت العلوم العقلية وخصوصا الفلسفية في تراجع مستمر، فكان عصر التناقضات الفكرية وعصر الحروب العسكرية في مواجهة مع العدو الخارجي من ناحية ومواجهة بين طوائف دينية إسلامية كالمواجهة بين الشيعة والأشعرية، وحتى المواجهة بين أهل الظاهر وأهل الباطن.
كان صلاح الدين واليا على مصر وقد سخر جهوده في الحرب على الفاطميين ونشر المذهب الأشعري في العقائد والمذهب الشافعي في الفقه واعتمدهما مذهبا رسميا في مصروغيرها من المناطق التي تحت سيطرته.
كان هناك صراع بين إيديولوجيتين: إيديولوجيا أهل الظاهر ممثلة في المذهب الأشعري وإيديولوجيا الباطن ممثلة في الحركات الباطنية والاتجاهات الفلسفية ذات البعد الغنوصي مثل الاتجاه الإشراقي الذي كان يمثله السهروردي. وبحكم أن السياسة كانت في متناول أهل الظاهر من الأشاعرة فإن الخصوم هم الذين يقفون في الجهة المضيق عليها وزاد على هذا الصراع ظهور الغزو الصليبي.
لهذا فإن فكر السهروردي سيكون ضحية هذا الصراع والمواجهة بحيث يلقى المعاملة القاسية من النظام السياسي والعقدي لعصره والمتمثل في الدولة الأيوبية التي كانت تتبنى الإتجاه الظاهر في الفقه والعقائد جاعلة من توجهها هذا سيفا على الخصوم من أهل الباطن من العرفان والحركات الإسماعيلية. فكانت نتيجة هذا الوضع أن يلقى السهروردي حتفه بشكل مأساوي حاد.
في عام 587 هـ تم إعدام السهروردي إذ بعث الفقهاء في حلب بتهمة إلى صلاح الدين الأيوبي الذي أفتى بإعدامه وأمر ابنه الملك الظاهر الأيوبي حاكم حلب بتنفيذ حكم الإعدام في السهروردي، رغم أن الملك الظاهر كان شديد الإعجاب بالسهروردي وكان يقربه منه ويفضله على علماء عصره.

حياته:

شهاب الدين السهروردي المسمى بـ يحيى بن حبش بن أميرك وكنيته أبو الفتوح ولقبه شهاب الدين، ولد حوالي سنة 545 هـ في قرية سهرورد وهي بلدة كردية في زنجان من عراق العجم، في شمال غرب بلاد فارس قرب همدان.
لم يكتف السهروردي بالعلوم التي تلقاها في بلدته بل سافر في طلب العلم إلى أصفهان ومراغة في أذربيجان حيث تعلم على يد ظهير الدين القاري وخالط شيوخ التصوف ودرس الفلسفة وعلوم الدين على مجد الدين الجيلي، وهو أستاذ فخر الدين الرازي، ثم التقى بالشيخ المارديني وهو فيلسوف مشائي يقرب من الأفلاطونية، التقى به في ماردين وصحبه وأخذ عنه، قال عنه فخر الدين المارديني: " ما أذكى هذا الشاب وأفصحه، ولم أر في زماني أحدا مثله"
وفي أصفهان درس فلسفة ابن سينا على يد تلامذته بحكم صحبته لهم وصداقته معهم.
كان السهروردي كلما كثير الترحال وكلما حل ببلد بحث عن حكمائها وعلمائها ليأخذ عنهم ويصاحب الصوفية ليقتدي بسلوكاتهم وأوصافهم. انتهى به المطاف في حلب وهناك ذاع صيته بين العلماء والفقهاء وجعله ملك حلب من مقربيه مما ألب عليه فقهاءها وكثر تشنيعهم عليه، وكان أن بدأ بنشر أفكاره والتصريح بها مع العلم أن طابع أفكاره مما لا يلقى القبول عند علماء عصره وهم الفقهاء والمتكلمون لأن طابع أفكاره كان يغلب عليه الطرح الغنوصي والعرفاني على قواعد الأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية الجديدة وعلوم حكماء فارس.
وفي حلب كتب أهم أعماله وهو لسان حال تجربته المعرفية كتابه حكمة الإشراق بالإضافة إلى كتب ورسائل فلسفية وصوفية منها كتاب اللمحات وكتاب التلويحات وكتاب المقاومات وكتاب المطارحات.
يقول السهروردي في كتابه المطارحات: " وهو ذا قد بلغ سني تقريبا ثلاثين سنة وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارك مطلع ولم أجد من عنده خبرا عن العلوم الشريفة ولا من يؤمن بها"
السمة البارزة في السهروردي هو جهره بمعتقداته وآرائه من غير مراعاة أهلها حتى وصفه أستاذه فخر الدين المارديني بقوله: " أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره"
صادفت شخصية السهروردي المباشرة لأفكارها وقناعاتها تشدد علماء وفقهاء عصره خصوصا في حلب فازداد تشنيعهم عليه وطلبوا مناظرته لإقامة الحجة عليه والتعجيل بالفتوى ضده، مما دعا بالملك الظاهر إلى إقامة مجلس مناظرته أمام الفقهاء لعلمه بأنه يمكنه الانتصار عليهم نظرا لقوته في المحاججة والاستدلال، لكن نهاية المناظرة انتهت بتهمة السهروردي بالزندقة ومعندة الشريعة، وكان أن كاتب هؤلاء الفقهاء الملك صلاح الدين الأيوبي فأفتى بإعدامه وأوكل أمره إلى ابنه الملك الظاهر حاكم حلب.
ذكر القاضي بهاد الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب أن صلاح الدين كان" كثير التعظيم لشعائر الدين .. مصدقا بجميع ما وردت به الشرائع منشرحا بذلك صدره مبغضا للفلاسفة والمعطلة (المعتزلة) ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معاندا للشرائع مبطلا، وكان قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمره بقتله وصلبه أياما فقتله"
وقال عنه بن خلكان: " وأقمت بحلب سنين للاشتغال بالعلم الشريف ورأيت أهلها مختلفين في أمره وكل واحد يتكلم على قدر هواه، فمنهم من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات، ويقولون ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك، وأكثر الناس على أنه كان ملحدا يعتقد شيئا"

ملخص المناظرة التي يجعلها الكثير من المؤرخين سببا في محاكمته وقتله:

جاء في بعض الروايات التي تحكي عن مناظرة من مناظراته مع الفقهاء:
سأله أحد الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيا.. وهذا مستحيل.
أجاب السهروردي: ما حدّ لقدرته؟ أليس القادر إذا أراد شيئا لا يمتنع عليه؟
رد الفقهاء: بلى.
فاستنتج السهروردي قاءلا: فالله قادر على كل شيء.
فاعترض الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل.
قال السهروردي: فهل يستحيل مطلقا أم لا؟
فحكم الفقهاء بكفره قائلين: كفرت.
واتهموه بالقول باستمرار النبوات بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

طريقة وفاته:

تختلف الرويات التي تؤرخ لطريقة مقتله، فتشير إحدى الروايات أنه ما جوعا وعطشا في قلعة حلب ، وتشير أخرى إلى أنه أرسل إلى القاهرة وامر بقطع رقبته بالسيف وهناك من ذهب إلى أنه أحرق، وبعضهم قال أن الملك الظاهر أمر بخنقه في سجن قلعة حلب.
بينما ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء يقول أنه خير في كيفية قتله فاختار أن يترك في مكان منعزل وأن يمنع عنه الطعام والشراب حتى يموت جوعا .
كان مقتله في أواخر سنة 586 هـ بقلعة حلب وكان عمره 36 سنة.
ننقل رأي بروكلمان إذ يعتبر أن السهروردي كانت له آراء غنوصية عرفانية قائمة على أساس الأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية الجديدة وكانت له أفكار صوفية بحيث يعتبر أن هناك نورا روحيا يتخلل الكون كإشراق لدني هو جوهر الأشياء جميعا، فبحسب بروكلمان أن أفكار السهروردي أثارت شكوك ا لدى علماء السنة فزعموا أنه يمثل عقيدة القرامطة المعادين للدولة الأيوبية وهكذا لم يكن في وسع صلاح الدين إلا أن وافق الفقهاء في الحكم عليه بالموت.

مؤلفاته:

هناك عدة دراسات ذهبت مذاهب في تصنيف مؤلفات حكيم الإشراق وبينها نقاش حاد عن الإعتبارات الضرورية من أجل عرض كتب السهروردي ومضامينها، أما نحن ومن غير ترجيح دراسة عىلى أخرى ارتأينا الاستناد إلى تصنيف ماسنيون لمؤلفات السهروردي، طبعا وهو قد خالفه الكثير في ارتكازاته المنهجية، إذ يرى أنها تنقسم إلى ثلاث أقسام:
1 – مؤلفات الشباب: وفيها الألواح العمادية وهياكل النور والرسائل الصوفية أطلق عليها ماسنيون بالعهد الإشراقي.
2 – المؤلفات المشائية: فيها كتاب التلويحات واللمحات والمقاومات والمطارحات والمناجاة.
3 – مؤلفات النضج: فيها اكتمل بناء مذهبه الإشراقي حيث يظهر تأثره الواضح بالأفلاطونية المحدثة وابن سينا وحكماء فارس وكبار الصوفية، ولعل أهم أعماله التي توضح مذهبه هيان النور هو مبدأ الوجود الوحيد كتابه حكمة الإشراق.

مصادر فلسفة السهروردي:

استمد السهروردي فلسفته من التصوف مثل تصوف الحلاج وأبي يزيد البسطامي وكذلك من فكر الغزالي الصوفي مثل كتابه مشكاة الأنوار يضاف إلى ذلك الأثر المشائي كما ورد في فلسفة ابن سينا خصوصا. رغم أن السهروردي انتقد الفلسفة المشائية إلا أنه اعتبرها ضرورية في فهم الحكمة الإشراقية. أما المصادر الخارجية فيظهر تأثر فكر السهروردي الإشراقي بالفلسفة الفيثاغورية والأفلاطونية المحدثة والهرمسية التي انتقلت من المدرسة الإسكندرية من خلال صابئة حران. يضاف إلى ذلك حكمة فارس القديمة التي ححاول أن يبعث عقائدها إذ اعتبر السهروردي حكماء فارس القدماء ورثة مباشرين علوم إدريس عليه السلام والذي اعتبره المسلمون الحكيم هرمس، فاعتمد السهروردي الزرادشتية من خلال رؤيتهم للنور والظلمة وعالم الملائكة، غير أن السهروردي رأى في الزرادشتية رؤية توحيدية على عكس ما يروج عنها كونها ثنوية.
يقول السهروردي: " وكان في الفرس أمة يهدون بالحق وبه كانوا يعدلون حكماء فضلاء غير مشبهة المجوس قد أحيينا حكمتهم النورية الشريفة، التي يشهد بها ذوق أفلاطون ومن قبله في الكتاب المسمى بحكمة الإشراق وما سبقت إلى مثله"
فالسهروردي يعتبر نفسه الموفق بين الحكمة اللدنية وبين الحكمة العتيقة.. وتجلت هذه الحكمة في أشكال مختلفة بين القدماء من هنود وفرس من بابليين ومصريين ثم بين اليونان حتى زمان أرسطو، باعتبار أرسطو يمثل نهاية التراث الحكمة عندما قصرها على العقل.
يروي السهروردي مناما يحكي فيه عن طبيعة الحكمة التي يدعو إليها، فهو رأى في المنام أرسطو مؤلف أثولوجيا، فسأله عما إذا كان المشاؤون كالفارابي وابن سينا فلاسفة حقيقيين، فأجابه أرسطو: "لا، ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته. ثم كنت أعد جماعة أعرفهم فما التفت إليهم، ورجعت إلى أبي يزيد البسطامي وأبي محمد سهل التستري وأمثالهما، فكأنه استبشر وقال: أولئك هم الفلاسفة والحكماء حقا"

معنى الإشراق:

يعتبر الجرجاني أن الإشراقيين هم جماعة الفلاسفة الذين يتخذون من أفلاطون أستاذا لهم في حين يعتبرهم عبد الرزاق الكاشاني بأنهم أتباع شيث النبي وكانت ترتبط بالهرمسية وهناك من اعتبر الاشراقيين هم جملة الحكماء من الكهنة المصريين وكانوا لهم قرابة بهرمس.
يعني أن الحكماء الإشراقيين يمثلون الفلسفة قبل الأرسطية التي قيدت البحث على قواعد النظر العقلي.
ويأخذ السهروردي نفسه بتعريف مشابه الحكمة الإشراق : "وقد رتبت لكم قبل هذا الكتاب وفي أثنائه عند معاوقة القواطع عنه كتباً على طريقة المشائيين ولخصت فيها قواعدهم ومن جملتها المختصر الموسوم بالتلويحات اللوحية والعرشية المشتمل على قواعد كثيرة ولخصت فيها القواعد مع صغر حجمه ؛ ودونه اللمحات » . وصنفت غيرهما ، ومنها ما رتبته في أيام الصبا . وهذا سياق آخر وطريق أقرب من تلك الطريقة وأنظم وأضبط
وأقل إتعاباً في التحصيل ، ولم يحصل لي أولاً بالفكر ، بل كان حصوله بأمر آخر . ثم طلبت عليه الحجة حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلا ، ما كان يشككني فيه مشكك
وما ذكرته من علم الأنوار وجميع ما يبتنى عليه وغيره يساعدني عليه كل من سلك سبيل الله عز وجل وهو ذوق إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون صاحب الأيد والنور ، وكذا من قبله في زمان والد الحكماء هرمس إلى زمانه من عظماء الحكماء وأساطين الحكمة مثل انباذقلس وفيثاغورس وغيرهما. وكلمات الأولين مر موزة وما رد عليهم وإن كان متوجهاً على ظاهر أقاويلهم لم يتوجه على مقاصدهم فلا رد على الرمز. وعلى هذا يبتنى قاعدة الشرق في النور والظلمة ، التي كانت طريقة حكماء الفرس ، مثل جاماسف وفرشا وشتر وبوزرجمهر ومن قبلهم"
فالإشراق هو اهو تلقي المعارف الإلهية اللدنية عن عالم المجردات بعد سلوك طريق التجرد ورياضة النفس ومجاهدتها حتى تتخلص من كدورات البدن ولوازمه، لتشرق حينها العلوم والمعارف في روح وقلب الحكيم الاشراقي. والإشراقيون كما يرى السهروردي هم " الذين لا ينتظم أمرهم دون سوانح نورية حتى إن وقع لهم شك يزول عنهم بالنفس المنخلعة عن البدن" (حكمة الإشراق)
والحكمة الإشراقية كما يعرفها قطب الدين الشيرازي، " إنها الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هو الكشف، أو حكمة المشارقة الذين من أهل فارس، وهو أيضا يرجع إلى الأول، لأن حكمتهم كشفية ذوقية، فنسبت إلى الإشراق الذي هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجردها، وكان اعتماد الفارسيين في الحكمة على الذوق والكشف، وكذا قدماء يونان، خلا أرسطو وشيعته، فإن اعتمادهم كان على البحث والبرهان لا غير" (شرح حكمة الإشراق).

طبقات الحكماء:

يصنف السهروردي طلبة الحق على حسب إلمامهم بالمعرفة فهو يعتبر أن الحكيم الجامع للمعرفة الإستدلالية هو الحكيم الكامل والطالب المحصل على المعرفتين هو أكمل الطلبة وأتمهم علما وبناء عليه يرتب طلبة الحق إلى ثلاث مراتب:
1 – الطلبة الذين حصلوا المعرفة الاستدلالية وكملت قواهم العقلية من خلال النظر لكنهم قصروا عن العرفان ومشاهدة الحقائق المجردة من أمثال المشائين المسلمين كالفارابي وابن سينا. لقبهم بالبحاثة وأصحاب الحكمة البحثية
2 – الطلبة الذين تمكنوا من العلوم الباطنية الشهودية الحضورية كالحلاج والبسطامي والسهل التستري وغيرهم من الصوفية. لقبهم بأصحاب ذوق التأله دون البحث.
3 – الطلبة الجامعين للحكمتين الذين أتموا معرفتهم الاستدلالية وزادوا على ذلك بالمعرفة اللدنية الحضورية وهم الحكماء الجامعين لذوق التأله والحكمة البحثية، من أمثال فيثاغوراس وشخص السهروردي نفسه.

فيض الموجودات:

نور الأنوار هو النور الأعلى وهو مصدر الوجود كله لا يصدر عنه لوحدانيته إلا واحد فأول ما يحصل عنه هو نور مجرد واحد، فالعالم يبدأ بصادر واحد وهو أول مراتب الإشراق الوجودي، وهو نور مجرد بسيط يعتبر الواسطة بين مبدأ الوجود وبقية الموجودات" فأول ما يجب بالأول شيء واحد لا كثرة فيه أصل وليس بجسم بل هو نور مدرك لذاته ولبارئه وهو النور الإبداعي الأول ولا يمكن أشرف منه"
والنور الصادر بحكم ازدواجية الاعتبار من حيث وجوده لأن له ماهية وهي نورانيته التي فيه وله المعلولية بحكم تعلق صدوره بنور الأنوار، فيصدر عنه النور الذي يليه في الرتبة وهكذا تمضي الفيوضات لإنشاء نظام وجودي متسلسل وهو نظام عقلي نوراني يأتي بشكل تنازلي بحيث كلما ابتعد الفيض عن نور الأنوار كلما ضعف في النورانية، فعالم الأنوار يصدر بعضها عن بعض صدورا ضروريا في نظامين أساسيين وهما:
1 - عالم الأنوار القاهرة: وهي العقول الكلية المجردة التي تترتب وجوديا في شكل طولي هذه الأنوار العقلية الطولية بعيدة عن الجسمانية يصطلح عليها شيخ الإشراق بالملائكة المقربين والشؤوؤن الإلهية ويطلق عليها بعالم الأمهات.
2 – عالم الأنوار المدبرة: يسميها السهروردي بالأنوار الأسفهبدية تصدر عن الأنوار المجردة تؤلف طبقة أفقية كذلك يصطلح عليها بالأنوار العرضية على عكس الأنوار الطولية فإن الأنوار العرضية تتواجد بجانب بعضها ولا يتولد الواحد منها من الآخر، كل نوع من هذه الأنوار له تأثير خاص على عالم الطبيعة، لذلك يسميها السهروردي بأرباب الأنواع.
يعتبر السهروردي أن الملاك جبريل يتحكم في النوع الإنساني فهو رب النوع الإنساني وهو روح القدس والموحي لكل معرفة: " ومن جملة الأنوار القاهرة أبونا ورب طلسم ومفيض نفوسنا ومكملها بالكمالات العلمية والعملية، روح القدس المسنى عند الحكماء بالعقل الفعال"
فالترتيب الوجودي لموجود ما مرتبط بقدر النور والوجود مرتب بشكل تفاضلي من الأشرف إلى الأخس، فكل موجود إن وجد فيجب أن يكون الممكن الأشرف قد وجد قبله" وإذا كان الجوهر العقلي أشرف من النفس يجب أن يكون قبلها، ولما كانت الأثيريات أشرف من العنصريات يجب أن تكون حاصلة قبلها. الممكن الأخس إذا وجد فيلزم أن يكون الممكن الأشرف قد وجد"

عالم المثل المعلقة:

" كل ما في العالم الجسماني من الجواهر والعراض فهي آثار وظلال لأنواع وهيئات نورية عقلية"
يقيم السهروردي عالم المثل كوسط بين العالم المادي والعالم الروحي، وهنا يجب أن نفرق بين عالم المثل الذي يقيمه السهروردي وعالم المثل الذي أسس له أفلالاطون فإن عالم المثل الأفلاطوني هو عالم الحقائق المجردة النورانية بينما عالم المثل الذي أقامه السهروردي هو وسيط بين اللطيف والكثيف بين عالم الأنوار وعالم المادة.

المعرفة:

تتأسس حكمة الإشراق على الذوق يقول السهروردي: "لم يحصل لي العلم بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه، حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلا ما كان يشككني فيه مشكك"
ويؤكد شارح كتاب حكمة الإشراق أن حكمة الإشراق: " هي الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هو الكشف، أو حكمة المشارقة.. فنسب الإشراق الذي هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على الأنفس عند تجردها، فالحكمة هي التي يظهر فيها الكائن مباشرة بنوع من الحدس الصوفي، لا بدليل وبرهان"
والسهروردي يقسم العلم إلى قسمين علم صوري نظري وحصولي يحصل للحكماء الذين يطلبون العلم بالفكر والبحث، وعلم حضوري وهو الذي لا يتم دون سوانح نورانية، فالعلم الحضوري هو الذي لا يفصل بين العالم والمعلوم بحيث يصبح المعلوم جزءا من ذات العالم وهذا لا يتم إلا لأرباب الكشف الذين يتجردون عن المادة ولوازمها"

مراتب الحكماء والأكمل رتبة:

يعتبر السهروردي أن الحكيم الذي يجمع حكمتي ذوق التأله والبحث هو الحقيق بخلافة الله في الأرض جون سواه وأن الغاية من خلق الإنسان هي خلافته تعالى في الأرض ولذا لا يمكن إطلاقا خلو الأرض من حكيم صاحب ذوق التأله ولا يخلو زمان منه وإلا انعدمت الغاية من الخلقة وبالتالي ينعدم العالم، يقول: " العالم ما خلا قط عن الحكمة وعن شخص قائم بها، عنده الحجج والبايانات وهو خليفة الله في أرضه"
ولكن إذا لم يوجد من يتحقق بهذه المرتبة فلا بد من حكيم متحقق بذوق التأله وإن كان عديم الحجة والبرهان. والخليفة عنده هو الإمام.

النور ومراتب الوجود:

الوجود عبارة عن نور واحد ظاهر بذاته ومظهر لغيره هذا النور له درجات تختلف فيما بينها بحسب شدة النور وضعفه. فالموجودات بينها تفاوت بحسب شدة النور وضعفه.
الوجود في فلسفة السهروردي غني عن التعريف لأنه لا يوجد ما هو أوضح منه ليدل عليه، فلا يمكن تعريفه بل الكل يعرف به. يقف في أعلى الهرم نور الأنوار الذي يتمثل في الذات الإلهية، هذا النور هو مصدر جميع الأنوار، " إن ذات النور المطلق الأول، الله، يفيض إشراقا دائما به يتجلى ويوجد الأشياء جميعا، وبواسطة أشعته يمدها بالحياة، إن كل شيء في العالم ناشئ عن نور ذاته، وكل الجمال والكمال منحة إحسانه، والحصول على هذا الإشراق هو النجاة"
عالم الموجودات يتعين إما كونه نورا أو ظلمة، فإن كان نورا فهو إما نوره قائم بذاته فهو حينئذ نور مجرد أو يكون نوره متوقفا على غيره فحينئذ نوره عرضي. وفي المقابل الظلمة إما أن تكون بذاتها فتسمى غسقا أو تكون الظلمة متوقفة على شيء آخر فحينئذ تسمى هيئة.
فالنور مبدأ الوجود وكلما انحدر الوجود في المرتبة انخفض النور من حيث الشدة إلى أن نصل إلى عالم الأجسام إلى أن يتلاشى تماما في عالم الظلام.
"النور هو الظاهر في حقيقة نفسه المظهر لغيره بذاته، وهو أظهر في نفسه من كل ما يكون الظهور زائدا على حقيقته، ولهذا لا يمكن أن يكتب بحد أو رسم ولا أن يعلم بحجة وبرهان لاستحالة أن يدرك الظاهر بما هو أقل ظهورا منه، لوجوب كون المعرّف أجلى من المعرَّف" (حكمة الإشراق)
والنور حقيقة بسيطة لا جنس لها ولا فصل وليس الاختلاف بين أفرادها بأمر ذاتي بل فقط من جهة الكمال والنقص في أصل حقيقة النورانية الوجودية.
وهناك فرق بين النور المحض العقلي والنور المحسوس، فالأول هو المبدأ والثاني هو أثره: " النور المجرد لا يكون مشارا إليه بالحس. ولما علمت أن كل نور مشار إليه فهو نور عارض، فإن كل نور محض لا يشار إليه ولا يحل جسما ولا يكون له جهة أصلا" (حكمة الإشراق)
يقسم السهروردي الوجود بين الغنى والفقر، فالغني يتصف بالوجود الذاتي والوجوب الذاتي، وهذا مصداقه نور الأنوار والنور الذاتي والفقير يستند في وجوده إلى الغير ويتصف بالإمكان في مقابل الوجوب، ومصجاقه النور العارض.
يتبنى السهروردي في فيض الموجودات قاعدة الواحد لا يصدر عنه لوحدانيته إلا واحد وإلا اقتضى التركيب في ذاته وهو محال لأن نور الأنوار وجود بسيط خال من أي نحو من أنحاء الكثرة، ويصدر عن الواحد النور الأكرم والنور العظيم يصطلح عليه في الفلسفة الإيرانية القديمة اسم بهمن. هذا النور ليس فيه أية ظلمة وإلا يلزم عنه أن نور الأنوار فيه ظلمة وهذا خلاف الأمر كما هو عليه. فالصادر الأول أو النور العظيم ليس فيه ظلمة، يسميه كذلك السهروردي "بالنور الإبداعي"، و"النور الأقرب" و"العقل الأول" و"النور الأول".
هذا النور الأقرب هو واسطة بين نور الأنوار والفيوضات التالية، الاختلاف بين نور الأنوار والنور الأقرب يكون من خلال شدة النور إذ كلما ابتعد النور عن المصدر ينقص في النورانية والكمال، فالأول أشد في كمال النورية من الثاني، وتسري النسبة التنازلية في سلسلة الأنوار المجردة التي تصدر مما يلي النور الأقرب، فكل جوهر نوراني أقل في الكمال والنورية من الذي يسبقه والذي منه إشراقه، لأن المفيد أتم في درجة الكمال من المستفيد. وتتعين المراتب من الكمال والنقص للأنوار بحسب بعدها وقربها من نور الأنوار لأن البعد والقرب يقيد قبول هذه المجردات للفيض فينعكس ذلك على شدة نورانيتها وبالتالي يؤثر في ترتيبها.
تترتب الأنوار ترتيبا تسلسليا من الأعلى إلى الأدنى، ترتيبا نازلا فيض بعضها منبثق عن بعض يسمي السهروردي هذا التسلسل النازل بطبقات الطول، فعالم الملائكة بهذا الاعتبار يشير إليه السهروردي بأنوار الأصول الأعلون ويسميها كذلك بعالم الأمهات.
وتشكل الملائكة التي لا يكون بعضها عللا للبعض بحيث تكون العلاقة بينها هي علاقة المساواة في الرتبة بحيث تشكل هذه الملائكة طبقات العرض، فالأنوار قسمان طولية وهي التي بينها علاقة العلية وعرضية وهي التي بينها تناسب في الرتبة. تشكل طبقات العرض أرباب الأنواع في حالة تشبه المثل في فلسفة أفلاطون.
في فلسفة السهروردي نجد نظاما تراتبيا للموجودات يختلف عما عهدته المشائية الإسلامية الممثلة في فلسفة الفارابي وابن سينا، فالواسطة بين عالم المادة وعالم المجردات في هذه الفلسفات كان فلك القمر، بينما في فلسفة السهروردي بات فلك الثوابت أو كرة الثوابت هي الحد بين عالم الملائكي المجرد وعالم المادي المظلم الذي سماه السهروردي بعالم البرازخ فعالم البرازخ يشير إلى كل ما هو جسم، وكل ما هو ظلمة.
يمكن حصر تقسيم العوالم عند السهروردي في أربعة مراتب
1 – عالم الجبروت: يتألف من الأنوار الملائكية الأولين والكروبيين والأمهات والعقول المثالية.
2 – عالم الملكوت: يتألف من عالم الأنوار التي تدبر الأجسام السماوية والإنسانية وهي عالم النفوس السماوية والأنفس البشرية.
3 – عالم الملك: يعبر عنه السهروردي بعالم البرازخ أي عالم الأجسام بما فيها الأجسام السماوية والطبيعية
4 – عالم المثال: وهو متوسط بين العالم العقلي المحض للموجودات النورانية وبين العالم المحسوس يتم إدراكه بالمخيلة فهو عالم المثل المعلقة التي لا تحل في أجسام .

تعليقات