الفلسفة والشريعة:
إن فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع أعني من جهة ما هي مصنوعات فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعلافة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك."علوم الأوائل:
إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات، واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم، فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إن كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها وهو الذي جمع أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية، فقد صدَّ الناسُ عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله.بالنسبة لابن رشد أن الشريعة توجب النظر الفلسفي كما توجب البرهان المنطقي لمعرفة الله وموجوداته، واستعمل أدلة نقلية توجب ذلك منها قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار" والاعتبار في هذه الأية ليس سوى استنباط المجهول من المعلوم وهو القياس البرهاني باعتباره أتم الأقيسة.
فواجب لمن يريد معرفة الله والموجودات معرفة أنواع الأقيسة وهي ثلاثة: البرهاني والجدلي والخطابي، لأن طبائع الناس متفاوتة في التصديق أي في الحكم فمنهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.
يرى ابن رشد أن المظر البرهاني الفلسفي لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، فما يصل إليه النظر البرهاني في معرفته الموجود لا يخلو أن يكون الشرع سكت عنه أو عرّف به فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هنالك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت الشريعة قطعت به، فلا يخلو ظاهرا النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله.
" ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي."
" والسبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع هو اختلاف نظر الناس وتباين مزائجهم في التصديق والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما.."
عند ابن رشد أن " الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول وأن الظاهر منها فرض وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه " حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله".
وإذا كان الشرع يوجب النظر الفلسفي، فمن الواجب تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، شريطة أن يتفق هذا التأويل مع قواعد اللغة العربية.
النقد الفلسفي
كان قصد ابن رشد من نقده للمتكلمين الإطار المنهجي وليس فقط آراءهم ولعل المنهج الذي استعمله المتكلمون هو المنهج الجدلي. فابن رشد اهتم بالتفرقة بين بين مراتب أقاويل عديدة أهمها الأقاويل البرهانية والأقاويل الجدلية الكلامية ووالأقاويل الخطابية الإقناعية، ومادامت الأقاويل الجدلية الكلامية والأقاويل الخطابية لا تعد في رأيه داخلة في الأطار اليقيني الذي تسعى إليه الفلسفة بناء على أن منهجها برهاني ، لذلك المتوقع من ابن رشد نقد مواقف المتكلمين وخصوصا الأشاعرة.نقده لدليل الحدوث عند المتكلمين:
يعتقد المتكلمون عموما بدليل الحدوث للاستدلال على وجود الله تعالى، يفوم هذا الدليل على القول بأن الأجسام تتركب من أجزاء لا تتجزأ تسمى بالجواهر الفردة، هذه الجواهر تعد محدثة بما يعني أن الأجسام المتكونة منها محدثة أيضا، وحدوثها يلزم ضرورة أن يكون لها محدث وهو الله تعالى.يعتبر ابن رشد أن دليل المتكلمين يمكن ترتيبه في شكل قيلس نقدماته غير يقينية:
أ - الجواهر لا تنفك عن الأعراض
ب - الأعراض حادثة
ج - ما لا ينفك عن الحوادث حادث.
- المقدمة الأولى غير واضحة لأن الجواهر إذا كان النقصود بها ما لا ينقسم فهذا غير واضح لأن الجوهر المعلوم هو الجسم.
- أما المقدمة الثانية التي تقوم على القول بأن الأعراض حادثة فهذا لا يمكن تعميم حكمه لأن أعراض الأجرام السماوية كحركاتها وأشكالها هي غير حادثة، وبالتالي دليل المتكلمين يعتمد مقدمة مغلوطة مبنية على قياس الغائب على الشاهد، لأنه ما دامت الأعراض في الشاهد حادثة فيمكن قياس ذلك على كل الأجرام بما فيها السماوية وهذا لا يثبت وبالتالي مقدمة دليلهم غير صحيحة.
- المقدمة الثالثة تفيد أن ما يقال عليها أنها غير محددة وغير واضحة فهي غير برهانية بمعنى لا تقوم على قضايا صحيحة وثابتة.
وينتهي ابن رشد من نقده هذا إلى القول بأن آراء المتكلمين في هذا الدليل لا يمكن أن تكون برهانية كما أنها لا تليق بالجمهور فهي لا تعدو كونها قياسا جدليا لا يرقى إلى مستوى البرهان واليقين، وهذا عيب القياس الجدلي لأن مقدماته ى يشترط فيها إلا أن تكون مشهورة فحسب.
نقده لمبدأ اللاضرورة عند الأشاعرة:
ترى الأشاعرة أنه ما من ضرورة تحكم علاقات الأشياء فالعالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه، فمثلا النار يمكن أن تتحرك إلى أسفل كما يمكن للحجر أن يصعد للأعلى رغما عن طبيعته الترابية التي هي من العناصر الثقيلة.
يعتبر ابن رشد أن هذه المقدمة خطابية وليست برهانية لأن التأمل في موجودات العالم يكذبها لأننا نجد عناية وغائية وعلاقة بين كل موجود وموجود.
نقد دليل التمانع: اخترع الأشاعرة دليل التمانع انطلاقا من فهمهم الآية الكريمة: لو كان فيهما آلهة إى الله لفسدتا"
اعتبر ابن رشد دليلهم غير متفق مع الأدلة الطبيعية أو الأدلة الشرعية واعتبره دليلا ضعيفا.
فإن الأشاعرة اعتبروا أن الآية فيها فيها قياس شرطي منفصل وهو قياس ضعيف على عكس القياس الشرطي المتصل وهو المقصود في الآية:
فإن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو غير المحال الذي أفضى إليه الكتاب، فالمحال الذي أفضى إبيه دليلهم ثلاثة مستحيلات دائمة، الأول أن يكون العالم إما لا موجودا ولا معدوما، وإما أن يكون موجودا معدوما، وإما أن يكون الإله عاجزا مغلوبا، بينما المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب هو محال مؤقت وهو أن يوجد العالم فاسدا في وقت الوجود فكأنه قال لو كان فيهما آلهة إلا الله لوجد العالم فاسدا في الآن ثم استثنى أنه غير فاسد فوجب أن لا يكون هنالك إلا إله واحد.
نقده لهم في صفة العلم
يرى ابن رشد أن المتكلمين طبقوا قياس الغائب على الشاهد في تحديد طبيعة صفة العلم أي قياس علم الله تعالى على علم الإنسان فإن ابن رشد يعتقد بقدم علم الله من غير طلب التعمق فيها لكن المتكلمين قالوا أنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم وعدا يلزم عنه أن يكون العلم بالمحدث في وقت عدمه وفي وقت وجوده علما واحدا، وهذا غير معقول، إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعا للموجود، ولما كان الموجود تارة يوجد فعلا وتارة يوجد قوة وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفا. يعني أن المتكلمين عجزوا عن إثبات علمه القديم ووجب عبيهم التوقف بحكم أنهم لا يمتلكون المنهج الذي يمكنهم من فهم المسألة، رلأي لبن رشد في العلم أنه يجب التمييز بين علم الحادث وعلم القديم. فعلم الحادث كالإنسان فيه الكلي والجزئي ويتغير.تحرير المسألة: أن العلم الحادث يكون الموجود علة وسببا لعلمه، أما العلم القديم فهو علة وسبب للموجود فمن المستحيل أن يكون علم البارئ تعالى قياسا على علمنا لأن علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها، فمن اعتقد هذا جعل الإله إنسانا أزليا والإنسان إلها كائنا فاسدا، واعتلر ابن رشد أن البرهان يقضي لتنزيه علمه عن وصف الكلي والجزئي، وتفصيل ذلم أن الله من جهة أنه يعلم ذاته فقط ، يعلم الموجودات بالوجود الذي هو علة له. علم الله غير منفعل فهو مادام يعقل الغير من حيث هو ذاته لا من حيث ما هو غيره كشأن علم الإنسان.
قوله في المتكلمين: ولا هم في هذه الأشياء اتبعوا ظواهر الشرع، فكانوا ممن سعادته ونجاته باتباع الظاهر ولا هم أيضا لحقوا بمرتبة أهل اليقين فكانوا ممن سعادته في علوم اليقين ولذلك ليسوا من العلماء ولا من جمهور المؤمنين المصدقين، وإنما هم من الذين في قلوبهم زيغ وفي قلوبهم مرض"
نماذج نقدية لفلسفة ابن سينا:
دليل الإمكان والوجوب: اعتبر ابن رشد أن دليل الممكن والواجب لم يقل به الفلاسفة القدامى بل إن ابن سينا و أول نا مقله عن الفلاسفة على أنه طريق أفضل من طريق القدامى، وزعم ابن سينا أن الدليل نشأ عن تحليل جوهر الموجود، يعتبر ابن رشد أن الممكن المفترض في هذه القسمة لا يفترض وجوب عبة توجبه لأنه يحتاج إلى مرجح خارجه أي فاعلا يحركه ويخرجه من القوة إلى الفعل وهذا المخرج لا يمكن أن يكون من طبيعة الممكن وإلا سألنا عن هذا المخرج وقد يتسلسل التعليل فلا نصل إلى واجب.كما أنه من غير المنطقي الجمه بين نقيضين في طبيعة الموجود الواحد بحيث يكون الموجود ذو طبيعة واحدة ويقال فيها أنها ممكنة من جهة وواجبة من جهة أخرى. فالواجب ليس فيه إمكان أصلا لأن الممكن نقيض الواجب وإنما الذي يمكن أن يوجد شيء واجب من جهة طبيعة ما ممكن من جهة طبيعة أخرى"
اعتبر ابن رشد أن دليل ابن سينا هو نفسه دليل كلامي قائم على الجدل لأنه في نهاية الأمر يقر بعدم وجود ضرورة بين الأسباب ومسبباتها.
نقد نظرية الفيض:
كشف نقد ابن رشد لنظرية الفيض التي قال بها كل من الفارابي وابن سينا عن كثير من الإشكالات والتناقضات.منها أن قولهم بأن الفاعل الأول لا يصدر عنه إلا واحد، يناقض قولهم أن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه مثرة، لأنه يلزم أم يصدر عن الواحد واحد ألا يقولوا أن الكثرة التي في العقل الأول كل واحد منها أول، ما يؤدي بهم إلى القول بأن الأوائل كثيرة. فابن رشد يعتبر هذه التصورات من الخرافات فهي أضعف من أقاويل المتكلمين ولا تجري على أصول الفلاسفة، كما لا تبلغ مرتبة الإقناع الخطابي فضلا عن الجدلي.
في حين أن تصور ابن رشد للعلاقة بين الواحد (وهو الله) وبين الكثير (وهو العالم) يمكن توضيحه بغير ما تصورته نظرية الفيض، وخصوصا أن الفلاسفة المشاؤون القدامى لم نعهد عندهم مثل هذا التعليل. فابن رشد بحكم تأثره بأرسطو يميز بين العالم العلوي والعالم السفلي، ويرى أننا يمكننا أن نصعد من العالم السفلي إلى العالم العلوي عن طريق بيان تأثير العلوي في السفلي ثم الصعود من العالم العلوي إلى الله تعالى الذي يخرج ما بالقوة إلى ما هو بالفعل دون أن نضطر إلى القول بترتيب على النحو الذي قال به الفارابي وابن سينا..
نقد الحشوية:
يرى ابن رشد أن الحشوية طائفة ذهبت إلى أن الطريق إلى معرفة وجود الله تعالى هو السمع وحده لا العقل، بمعنى أن الإيمان بالله يكون عن طرييق الشرع كما هو الحال للمعاد وغيره مما لا مدخل للعقل فيه. فهم باعتمادهم على ظاهر الآيات ورفضهم للتأويل قد أهملوا الاعتماد على النظر العقلي الذي أمر الله تعالى به في كثير من الآيات القرآنية.وبرفضهم التأويل أخرجوا الإنسان من دائرة الإنسانية لأن الإنسان بما هو كذلك هو كائن ناطق وعاقل كما أنهم خالفوا ما جاء في القرآن من آيات تحث على النظر والتفكير والاعتبار، وبنقده للحشوية استطاع ابن رشد الدعوة إلى التأويل وإقامته على أساس العقل والبرهان.
نقد التصوف والصوفية:
يأخذ ابن رشد على الصوفية أن طريقهم في النظر بيست طريقا نظرية عهي غير استدلالية، فهم يرون أم معرفة الله تعالى عبارة عن شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية والإقبال على الله بالفكرة.يقول ابن رشد: " إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فإنها عامة للناس بما هم ناس. ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها بالناس عبثا، والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طريق النظر، نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر، مثلما تكون الصحة شرطا في ذلك، لأن إماتة الشهوات هي التي تفيد التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطا فيها، كما أن الصحة شرطا في التعليم، وإن كانت ليست مفيدة له. ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملتها حثا، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم، بل كانت نافعة في المظر ".
وقد تناول ابن رشد مسائل نقد فيها المنهج الصوفي في المعرفة يقول: " وهذه الحال من الاتحاد هي التي ترومها الصوفية وبين أنهم لم يصلوها قط، إذ كان من الضروري في وصولها معرفة العلوم النظرية.. ولذلك كانت هذه الحال كأنها كمال إلهي للإنسان، فإن الكمال الطبيعي إنما يحصل له في العلوم النظرية الملكات التي عددت في كتاب البرهان"
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا