التجلي :
المقصود بالتجلي الظهور، والوجود حقيقته كحقيقة النور ظاهر بذاته مظهر لغيره، ونحن ما دمنا بصدد وحدة الوجود الشخصية، حيث لا مجال لوجود غير الوجود الواحد فكيف نفسر هذه المظاهر المتعددة للوجود؟
جاءت نظرية التجلي لتحل هذه المشكلة وهي كيف ترفع عن ذهن الموحد التباس التعينات الوجودية وكثرتها العرْضية والطولية. بحيث لا يشهد إلا الوجود الواحد سار في جميع مراتب وتعينات الوجود، على أن سبب الغفلة عن التجلي الوجودي للحق تعالى هو تقييد الوجود في مستوى الأنا الخلقية المتمثلة في نسبة الوجود إلى النفس، "الحجاب المسدول بين العبد وربه هو نسبة الوجود للعبد، فمن لم يخرج عن نسبة الوجود لنفسه لم يتصل بربه... وجودان لا يجتمعان"[1].
ذوق التوحيد:
بينما إذا تحقق بالتوحيد ذوقا بأن ظهر عليه فمحا ذاته وصفاته وأفعاله فأفناه هذا الظهور، هنا يشهد ظهور الوجود المطلق ساريا في الكل أي متجليا في جميع المراتب والتعينات، "الحق هو الله لا شيء معه، إذا ظهر على العارف بذاته وعموم صفاته ظهورا يوجب الاضمحلال والتلاشي، فلم يبق في نظره غيره"[2]. لأن ما ثم إلا الحق وشؤونه لا غير فمهما تعين الوجود أو تنزل فهو الحق الظاهر وما التعين إلا نتيجة توهم قيد وهو أمر ذهني ونتيجة قيد واعتبار معين، والتجلي هو شهود الوجود الواحد، فالحق ظاهر في المظاهر ولا وجود للمظهر في نفسه بل الوجود هو للظاهر فيها، "(فغشاها ما غشى) أي غشى الكائنات وعمها ما عم من أنوار الشهود، فصارت لا تُرى بانفرادها إنما تُرى بظهوره سبحانه وتعالى فيها"[3].
عالم الخليقة مصداق كتاب التكوين وعالم الحروف مصداق كتاب التدوين وهناك مظاهاة بينهما فما بقع في عالم التكوين يقع بنفس الكيفية في عالم التدوين، فبمقتضى التجلي لا ظاهر إلا الحق هكذا يشهده أهل العرفان، فكذلك في عالم التدوين لا متجلي ولا ظاهر إلا نقطة المداد، أما الحروف فأمور متعقلة، موجودة في ذهن المعتبر، "ليس للحروف وجود في الخارج ولو بعد التجلي إلا نفس المداد فالحروف كائنة بكينونة النقطة لا باستقلاله"[4]. يجب التنبيه إلى أن التجلي يقابل بالتعين، ففي التجلي يعتبر ظهور الحق وهو أمر شهودي بينما في التعين يعتبر التقيد وهو أمر وهمي يقع في الذهن لا في الخارج، فيؤخذ الوجود باعتبار قيد ما.مراتب التجلي:
بناء عليه يتقيد الوجود على حسب الاعتبار المأخوذ، "يا غافلا عن الله أرجع البصر هل ترى في وجود الحق عز وجل من فطور حتى يكون فيه لما سواه من ظهور، ثم ارجع البصر كرتين (الملك/ 04) فلا محالة ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (الملك/ 04)، حيث لا يجد متجليا سوى الواحد الكبير"[5]، وتترتب التجليات على وفق ظهورات الحق في تعيناته، هناك ما قبل التجلي، وهو غيب مغيب لا خبر ولا وجود ولا عدم بل ذات في ذات، ويأتي التجلي الأول، وهو ظهور الحق لنفسه في مرتبة الأحدية، ثم التجلي في مستوى الواحدية وهكذا، وما هي إلا ظهور الحق وتجلياته الوجودية في مستوى كل تعين أو مرتبة، ليكون هو المشهود لا غير وهذا معنى سريان الوحدة في الكثرة.
سبب شهود الكثرة:
وما الكثرة إلا اعتبار ذهني سببه تحيز وجود المدرِك (بكسر الراء). "وما ذكرنا هذا إلا لنعلم أن إشارة المتقدمين والمتأخرين ترمي لما وراء الأشياء، وأنها لم تخلق سدى، وعلى أن لها الحظ الوافر من ظهوره سبحانه وتعالى فيها، أو نقول بها، فلا تتقيد بالمظاهر عما يقتضيه الظاهر، إذ لو كانت السماء سماء والأرض أرضا، أي مجردين مما يعز إفشاؤه لما مدح سبحانه وتعالى إبراهيم (ع) بقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين (الأنعام/ 75) فعلمنا أن في الزوايا خبايا... وهذا ونحوه مما يهتدي به مفيد للعلم بأنه سبحانه وتعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت"[6].
فبمقتضى التجلي الأسمائي لا وجود للغير ولا إسم له ولا رسم بل الكل أسماء الحق ظاهرة في مظاهر الموجودات: " ولولا كل اسم من أسماء الموجودات تحته اسم من اسم الله عز وجل، لما تلفظوا بأسماء الغير ولو على سبيل التعليم، ولكن لما كشف لهم عن وحدانيته في الذات والصفات والأفعال فوجدوا لا اسم مع اسم الله كما لا ذات مع ذاته ولا صفات مع صفاته."[7]، ويكون التحيز والغفلة عن ظهورات الحق من أسباب إنكار التجليات الإلهية في مراتب التشبيه كما وقع للسيدة مريم (ع) أم المسيح، حينما تعوذت من جبرائيل لما ظهر لها.
في حين أن النبي (ص) كان يدركه على هيأته المجردة أي التنزيهية كما كان يدركه في تمثلاته البشرية ولا يحجزه ظهور عن ظهور أو قل تجل عن تجل، فالكل عنده جبرائيل (ع)، "بخلاف سيدتنا مريم (ع) فإنها تعوذت منه عندما تمثل لها بشرا سويا... وهكذا يقع لكل من تغفل عن ظهور الحق في هذا العالم، مع علمه بأنه محل للظهور، وهناك موانع: المانع الأول من إدراكه عدم الشعور. المانع الثاني سوء الفهم وعدم العلم، وبالجملة تحجيرنا على الألوهية، حيث قيدناها بأوصاف مخصوصة، وألزمناها أن لا تخرج عنها، ففاتنا خير بقية الصفات التي تجلت بها الآن، وقبل الآن، وبعد الآن، والكل عنها بمعزل"[8].
[1] أحمد بن مصطفى العلاوي، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية ، ج2، ص 127.[2] المصدر السابق، ص 117.
[3] أحمد بن مصطفى العلاوي، منهل العرفان في تفسير البسملة وسور من القرآن، ص 90.
[4] المصدر نفسه، ص24.
[5] أحمد بن مصطفى العلاوي، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، ج2، ص 157.
[6] أحمد بن مصطفى العلاوي، منهل العرفان في تفسير البسملة وسور من القرآن، ص 70.
[7] أحمد بن مصطفى العلاوي، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، ج1، ص 168.
[8] أحمد بن مصطفى العلاوي، منهل العرفان في تفسير البسملة وسور من القرآن، ص 32.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا