![]() |
ارتباط الفلسفة بالنبوة أمر أصيل |
الفلسفة والنبوة
النص مقتطع من كتاب: الفلسفة الإسلامية منذ نشأتها إلى اليوم، الفلسفة في أرض النبوة، منشورات رؤية، 2021.
يقدم "بارمنيدس" ، عادة بوصفه العقلاني الذي كتب قصيدة متوسطة الجودة.
ولكن، كما أظهرت الدراسات المتميزة الأخيرة التي قام بها بيتر كينغسلي Peter Kingsley؛ فإن بار منيدس كان بعيدًا عن أن يكون عقلانياً بالمعنى الحديث. لقد كان غارقا في عالم النبوة بمعناها الديني اليوناني، وكان رائيا حالما. وفي قصيدته التي تتضمن رسالته الفلسفية، اقتيد بارمنيدس إلى العالم الآخر بواسطة بنات الشمس، اللائي جئن من قصر النور الكائن في أقصى منزلة من الوجود. والجواب عن السؤال حول كيفية وقوع هذه الرحلة هو : «الخلوة»، وهي ممارسة روحية معروفة في الديانة اليونانية القديمة، وتتمثل في انعزال الشخص وسكونه التام حتى تنتقل روحه إلى مراتب عليا من الحقيقة، وتبدأ أسرار الوجود في التكشف له.
وبذلك خاض بارمنيدس الرحلة الداخلية حتى التقى الإلهة التي علمته الشيء الأعظم أهمية، فقد علمته ما يُعد أسس التفكر الفلسفي اليوناني. ومن اللافت للانتباه أنه عندما التقت الإلهة مع بارمنيدس خاطبته باسم كوروس kouros، أي: الشاب. هذه حقيقة رائعة تسترعي الانتباه؛ لأنه في الثقافة الإسلامية يرتبط المصطلح ذاته عن الفتوة الروحية.
الشخصية اليونانية الأخرى التي نالت لقب: "كوروس" - أي: فتى - ، هي إيبيمينيدس الكريتي، الذي انتقل أيضًا إلى العالم الآخر والتقى العدل، وجلب معه الشرائع إلى هذا العالم. وعلى غرار بارمنيدس، كتب إيبيمينيدس شعرًا أيضًا. والآن يُعرف يبيمينيدس بأنه من الأنبياء المعالجين، الذين أوحي لهم كل شيء من خلال الخلوة، حينما كان يرقد بلا حراك في أحد الكهوف لسنوات.
أصبح بارمنيدس مرتبطا بهذا التقليد، وانتقل الأنبياء -المعالجون إلى عوالم أخرى، كما فعل الشامان، ولم يكتفوا بوصف رحلاتهم فحسب، ولكنهم، أيضاء استخدموا اللغة بطريقة تؤدي إلى جعل هذه الرحلة ممكنة للآخرين. فاستخدموا التعاويذ والتكرار في قصائدهم، الأمر الذي نراه كذلك فى قصائد. بار منيدس. كذلك قدموا قصصًا وأساطير من اقاصى بلاد الشرق، إلى حد الوصول إلى التبت والهند، والتى لها أهمية كبيرة لأن المجتمع الذى عاش فيه بارمنيدس في جنوبي إيطاليا جاء فى الأصل من الشرق من بلاد الأناضول، حيث كان الإله أبولو Apollo يحظى بتقدير خاص بوصفه النموذج الإلهى للأنبياء المعالجين، وكان هو مصدر إلهامهم بوصفهم أنبياءه الذين الهمهم تأليف الشعر الخلاب، الذي يتضمن معرفة الحقيقة.
في العقود الأخيرة، كشفت الحفريات في مدينة فيليا Velia في جنوب إيطاليا، التي كانت موطن بارمنيدس، عن وجود بعض النقوش التي تربط مباشرة بينه وبين أبولو والأنبياء- المعالجين. وكما يقول كينغسلي في كتابه: يظهر لنا بارمنيدس بوصفه ابن الإله أبولو، متحالفًا مع شخصيات أخرى من الأنبياء المعالجين الغامضين، الذين كانوا خبراء في استعمال شعر التعاويذ، وفي أداء رحلات إلى عوالم أخرى. وإذا تذكرنا أنه - من الناحية الباطنية - «أبولو» ليس إله النور» ولكنه نور الله؛ فإنه يتضح لنا كيف أن الفلسفة، على النحو الذي طرحه أبو الفلسفة اليونانية بارمنيدس، كانت مرتبطة بعمق، في لحظة نشأتها، بالنبوة، حتى من المنظور المقدم في الأديان الإبراهيمية، وهذا مع عدم التغاضي عن المعنى الباطن للنبوة، الذي سننتقل إليه قريبا. لقد أنشئ تقليد كامل من الكهنة المعالجين خدمة أبولو أوليوس Apollo Oulios، أو ما يعرف باسم «أبولو المعالج»، ويقال إن بارمنيدس كان مؤسسه، ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن هذه الجوانب من حياة بارمنيدس قد أهملت لاحقا في الغرب، ولكنها حفظت في الفلسفة الإسلامية، حيث ربط مؤرخو الفلسفة المسلمون، ليس فحسب بين الفلسفة الإسلامية، ولكن بين الفلسفة اليونانية أيضًا والنبوة، بشكل وثيق، وهنا يجب استدعاء المقولة العربية الشهيرة: تنبع الحكمة من مشكاة النبوة.
ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن معلم بارمنيدس كان شخصية فقيرة وغامضة، وأن ما كان يدرسه لتلميذه، في المقام الأول، هو السكون. قد كان هذا مهما للغاية؛ حيث إن بعض الفلاسفة اللاحقين الذين سعوا إلى فهم بارمنيدس، مثل أفلاطون قد استخدموا مصطلح السكون أكثر من أي كلمة أخرى لوصف فهم بارمنيدس للحقيقة. بالنسبة لبارمنيدس فإنه من خلال السكون فقط يمكننا الوصول إلى السكون. ومن خلال السكون سنتوصل إلى فهم السكون. ومن خلال ممارسة السكون يمكننا إدراك الحقيقة الموجودة وراء هذا العالم من الحواس. وهنا من المفيد بشدة أن نتذكر استخدام مصطلح السكون hesychia المرتبط بمؤسس علم المنطق والفلسفة اليونانيين، في مذهب السكون Hesychasm الذي يُجسد التعاليم الباطنية للكنيسة الأرثوذكسية، وهي التعاليم التي هدفها تحقيق القداسة والعرفان Gnosis.
وفي قصيدة بارمنيدس، أخبر صراحةً من قبل الإلهة أن يأخذ ما علمته إياه ويبلغه إلى العالم، وأن يكون رسولا لها. يوضح كينغسلي ما يعنيه مصطلح الرسول في هذا السياق: «هناك اسم واحد بعينه يمكن أن يصف هذا النوع من الرسول» الذي وجد بارمنيدس أنه قد أصبح إياه، ألا وهو النبي». فالمعنى الحقيقي لكلمة «نبي» لا علاقة له بالقدرة على التنبؤ بالمستقبل. ففي الأصل، كان هذا الوصف يعني فحسب الشخص الذي وظيفته أن يتكلم بالنيابة عن قوة عُظمى، عن شخص أو عن أي شيء آخر، وهذه الوظيفة النبوية لبارمنيدس لم تشمل فقط كونه فيلسوفا وشاعرًا ومعالجا، ولكن دوره أيضًا كجالب للشريعة، مثل إبيمنديس Epimenides..
على أن العلاقة بين بارمنيدس والنبوة لم تكن في المقام الأول اجتماعية أو تشريعية أو ظاهرية، ولكن تجديدية، وداخلية، وباطنية. فقصيدته، إذا فهمت بشكل صحيح؛ هي في حد ذاتها تأهيل للعالم الآخر، وكل الدلائل، التي لا يغفلها سوى الحمقى؛ تشير إلى أن هذا النص موجه للمبادرين». وهو في هذا ينضم إلى فيثاغورس وإمبيدوكليس Empedocles، اللذين كانت فلسفتهما موجهة فقط للقادرين على تلقي الرسالة، كما أنهما كانا يتكلمان مرتبطين، بإحكام، بالبعد الباطني الروحي، لا الظاهري، للديانة اليونانية، وهو البعد الذي يتطلب تجديد الفهم الكامل. وهذا الجانب الباطني الروحي يتطلب التدرب على تعاليمها للتوصل إلى الفهم الكامل لتلك الرسالة. ومن اللافت للنظر في هذه المسألة كيف أن الفلسفة الإسلامية مرة أخرى تشبه إلى حد كبير الرؤية الفلسفية ما قبل سقراط، لأمثال هؤلاء الفلاسفة فيثاغورس، وبارمنيدس وامبيدوكليس، وجميعهم حظي بمكانة كبيرة عند الفلاسفة المسلمين، وبخاصة فلاسفة المدرسة الإشراقية.
وبالحديث عن إمبيدوكليس الشخصية الغامضة، نجد مرة أخرى الفيلسوف الشاعر والمعالج الذي كان الكثيرون يعدونه أيضًا من الأنبياء، ففضلا عن كونه ساحرًا وشاعرًا فقد كان أيضًا نبيا ومعالجا، كان واحدا من الأنبياء المعالجين الذين تحدثنا عنهم فيما سبق كما يقول كينغسلي. وقد كتب إمبيدوكليس أيضًا في العلوم الكونية وعلوم الطبيعة، مثل الفيزياء، ولكن حتى في هذه المجالات لم يكن الهدف من أعماله فقط تقديم الحقائق، ولكن إنقاذ الأرواح. وهذا إلى حد كبير يشبه ما كتبه بعض الفلاسفة المسلمين عن العلوم الكونية، ومنهم السهروردي وابن سينا في القصص الرمزية. ويجب أن ندرك قبل كل شيء أن إمبيدوكليس كان يرى نفسه من الأنبياء، وأن قصيدته عمل باطني لفئة محدودة من الناس.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء الرموز الثلاثة من الفلاسفة الذين ظهروا في نشأة التراث الفلسفي اليوناني كانوا أيضًا شعراء. لقد كانت
هذه سمة من سمات كثير من الفلسفات التي ازدهرت على مر العصور تحت شمس النبوة. لا يحتاج المرء إلى الإشارة إلى الحكماء الهندوس القدماء الذين كانوا شعراء إلى جانب كونهم آباء الفكر الفلسفي الهندوسي بمعناه التقليدي، كما نذكر أيضًا العديد من الحكماء الصينيين الذين عبروا عن أنفسهم من خلال الشعر. وفي عالم الديانات التوحيدية الإبراهيمية يمكن ملاحظة صورة مشابهة بين عدد من الفلاسفة اليهود والنصاري، كما توجد هذه الصورة مرة أخرى بشكل خاص عند الفلاسفة المسلمين، بدءًا من ابن سينا، وناصر خسرو، وعمر الخيام، والسهروردي مرورا بأفضل الدين الكاشاني، ومير داماد وملا صدرا، وصولا إلى حاجي ملا هادي السبزواري، الذين عاشوا جميعهم في الفترة بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر الميلاديين.
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا