📁 آخر الأخبار

مسار الفلسفة بين الروحانية والعقلانية المجردة Philosophy between spirituality and abstract rationality

مسارات الفلسفة


ما الفلسفة وهل هناك فلسفة واحدة أم هناك فلسفات؟

ما الفلسفة وما طبيعتها وهل الفلسفة من خلال تاريخها عرفت مسارا واحدا أم هناك فلسفات متعددة من حيث المنهج ومن حيث المصادر؟

نحن نعلم أن أول من نحت مفهوم الفلسفة هو فيثاغوراس، القصة التي تحكي أن أحد تلامذة فيثاغوراس سأله وبدأ بسؤاله بقوله أيها الحكيم، قاطعه فيثاغوراس بنفي صفة الحكمة عن نفسه، فأجابه أنا لست الحكيم فالحكمة للإله أما أنا فمحب للحكمة. فمحبة الحكمة هي محبة الإله. ومن هنا جاء مصطلح الفلسفة التي ترجمتها محبة الحكمة.

وورثها فلاسفة الإسلام ونذكر منهم أبو يوسف يعقوب الكندي فيلسوف العرب ومؤسس الفلسفة في بلاد الإسلام، يقول أن الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر طاقة الإنسان. وتقييد التشبه بالله بحسب طاقة الإنسان، فيها إشارة إلى إنسانية المعرفة الفلسفية وأنها نسبية بحسب موقع الإنسان وطبيعة خلقته؛ كونه مخلوقا وعلمه له حدود فحتى بحثه في الوجود يكون بحسب قدرته ونسبيا بحسب جهده وبالتالي الفلسفة علم إنساني وهذا معنى محبة الحكمة وطلبها وعلم الفلسفة يتناول الوجود ومبادئه العليا المتحكمة في تفاصيله. 

ولذا اعتبرت الفلسفة بأنها علم الوجود بما هو موجود بقدر طاقة الإنسان وهذا وفق العقل وقواعده. والوجود له حقائق عليا وسفلى فالحقائق العليا يمثلها عالم المجردات منها المبدأ تعالى، كونُه مبدأ جميع الموجودات والعالم السماوي وتمثله الميتافيزيقا أو الإلهيات والحقائق السفلى ويمثلها العالم الطبيعي. بالاصطلاح الإسلامي عالم اللاهوت الله تعالى وصفاته وأفعاله وعالم الجبروت وهو عالم العقول السماوية وعالم الملائكة النورانيين وعالم الملكوت وهو عالم النفوس الكلية كاللوح المحفوظ وعالم أم الكتاب حيث لوح القضاء المكتوب وعالم الملك وهو عالم الكون والفساد أي عالم الصيرورة والتغير وكذلك هو عالم الطبيعة.

الفلسفة فيها جانب نظري أي الحكمة النظرية وهي تدرس كل العلوم التي ليس لها علاقة بإرادة الإنسان وفعله منها الإلهيات أو الميتافيزيقا وهي أشرف العلوم الفلسفية ومنها الطبيعيات والطب والنجوم والفلك والمنطق والرياضيات...

وفيها الجانب العملي أي الحكمة العملية وهي جملة المعارف التي لها علاقة بفعل الإنسان وإرادته أي ما ينبغي علمه لغرض العمل به على عكس الحكمة النظرية التي تدرس ما ينبغي علمه وفقط ولا علاقة له بالعمل المباشر. فالحكمة العملية لها فروع ثلاثة وهي الأخلاق التي تركز على السعادة الفردية، والسياسة وهي التي تركز على سعادة المجموع ثم تدبير المنزل أو الاقتصاد بالمفهوم الحديث.

مسارات الفلسفة من اليونان إلى الغرب الحديث:

نأتي إلى مسارات الفلسفة بشكل مختصر وهل هناك فلسفة واحدة أم هناك فلسفات؟ ونطرح تساؤلا عن موقع الفلسفة الإسلامية في إطار هذه المسارات.

نقول؛ إذا تأملنا نشأة الفلسفة فإننا نواجه نظرتين مختلفتين؛ نظرة تتزعمها المركزية الغربية والأوربية والتي جاءت نتيجة تعامل وضعي مع الحقيقة فنحتت مفهوما جديدا للفلسفة انفصلت من خلاله عن الفلسفة اليونانية وكل الفلسفات القديمة. فهي ترى الفلسفة منتوجا إنسانيا محضا أنتجه الإنسان بشكل مستقل عبر مغامراته في اكتشاف ما يحيط به من خلال التأسيس العقلي الوضعي المرتبط بالحس والتجربة الحسية، وأن الفلسفة اختصت بالشعب اليوناني حيث ازدهرت العقلانية وتم تجاوز الفكر الأسطوري الذي ارتبط بالشرق عموما.

فالفلسفة ظهرت عندما تم الفصل بين البحث العقلي وبين الدين واللاهوت وآن الأوان للبشرية أن تتحرر من النزعات الميتافيزية التي لا تخضع للإختبار الحسي. ففصل الغرب أولا بين المسيحية وبين العلم والفلسفة في بداية القرن الرابع عشر الميلادي في حين أن فلاسفة القرون الوسطى كانوا ملتزمين بتوافق الدين مع العقل وهذا الذي ورثوه من فلاسفة الإسلام كابن سينا وابن رشد. فاتخذت الفلسفة في أوربا في عصر النهضة موقفا معاديا للدين، بل أصبحت الفلسفة الدين البديل للإنسان الأوروبي الذي يرسم له رؤيته للحياة في إطار وضعي (مادي) بل تعدى الأمر بحيث أصبح الإعلام يبشر بهذه النظرة لدى الشعوب غير الأوربية وخصوصا الإسلامية فنشأ عندنا هذا التيار الفلسفي الذي يدعو إلى القطيعة مع الدين وتجاوزه من أجل الانخراط في سلك التقدم المزعوم، وتم تجريد الفلسفة من الروحانية بعنوان تجاوز الفكر اللاهوتي الخرافي والذي لا يوافق العقلانية. باعتبارها الدين البديل.

فمثلا أوغوست كونت الذي يرى أن البشرية في سيرها العلمي والحياتي مرت بتطور من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية وصولا إلى المرحلة الوضعية حيث الإختبار التجريبي حاكم على كل حكم.

ونحن عندما نرجع لتاريخ الفلسفة وكيف نشأت فإنها نشأت في أحضان الروحانية الدينية لليونان فالدين والتوجهات الروحانية عند اليونان هي االتي احتضنت الفلسفة لأن جل فلاسفة اليونان كانوا يستمدون تعاليمهم الفلسفية انطلاقا من توجهاتهم الروحانية. مثلا لدينا فيثاغوراس الذي أسس للنحلة الفيثاغورية وهيراقليطس وطاليس، وأنباذوقليس هؤلاء فلاسفة ملهمون ويرون أن الحكمة التي كانوا يبشرون بها جاءتهم من الآلهة من خلال الإلهام مثلا لدينا بارمنيدس الذي ألف أشعارا عكس فيها رؤيته الفلسفية وهذه الأشعار يبين فيها بأن فلسفته ملهمة من قبل بنات الآلهة: وهنا نفتح قوسا تأويليا نستطيع من خلاله تفهم الفكر اليوناني فمثلا إلياذة هوميروس تتحدث عن الأبطال نصف آلهة الذين ينتسبون للإله أبولو وبنات الآلهة ومجلس الآلهة في جبل أولمبوس.

نحن نعتقد أن أنصاف الآلهة هي صيغة تعبيرية تعظيمية للأبطال كون الجانب الإلهي فيهم كبير ويطغى على شخصيتهم يعني أن حقيقته ربانية بالمعنى الإسلامي كما يجري التعبير عن الجانب الرباني في الأولياء أو حتى القديسين في المسيحية وهو الذي يسبب ظهور الكرامات والمعجزات التي لا يمكن تصور مصدرها سوى من الجانب الإلهي فأبطال الأساطير اليونانية جرى وصفهم بهذه الصفات فالمشكلة لا نرجعها إلى وثنية يونانية كما يستعجل بعض من ينعتون الفكر اليوناني بالوثني وهو نفس الحكم الذي نعتت به الأساطير القديمة وحتى الزرادشتية التي حوكمت بظواهر نصوصها فوصفت بديانة شركية في حين هي ديانة توحيدة بسبب مقولتهم بمبدأي الوجود وهما النور والظلمة. وبالتالي المسألة تعبيرية أكثر منها وصفا تعريفيا. وبنات الآلهة يقابلها في منظومتنا الدينية عالم الملائكة، أو العقول السماوية بالاصطلاح الفلسفي.

المهم فإن فلاسفة اليونان قبل أرسطو كانوا ملهمين وفلسفتهم كانت ذات طابع روحاني والحكمة كانت ذات طابع إلهامي، وهذا كذلك نلمسه في فلسفة سقراط وأفلاطون وأتباع المدرسة الأفلاطونية، بل حتى أتباع أرسطو الذين تأثروا بالأفلاطونية.

فقط مع أرسطو فهو حاول أن يضبط الفكر في إطار العلم والعقل وبطريقة يمكن اختبار المفاهيم من خلالها وهي آلية المنطق، للعلم فقط هنا نلاحظ أن تاريخ الفلسفة مر بلحظات فارقة حاول من خلالها بعض الفلاسفة تصحيح مسار الفلسفة من خلال محاولة علمنتها أي ضبط قضاياها ضبطا يوازي العلوم وتعد محاولة أرسطو هي أول لبنة في علمية الفلسفة من خلال ضبط الاستدلال على القضايا بآلية المنطق.

ونحن كذلك نسجل محاولة ديكارت في تقريب الفلسفة من االرياضيات واكتشافه منهج البداهة وهناك جهود مثل جهود كانط الفيلسوف الألماني الذي حاول إخراج الميتافيزيقا من ساحة التحقيق العلمي وكذلك جهود إيدموند هوسيرل الفيلسوف الألماني الذي ابتدع المنهج الفينومينولوجي من أجل علمنة الفلسفة وهكذا. فأرسطو قلل من قيمة الإلهام والروحانية واستبدل التحقيق الروحاني الفلسفي بالمنطق وهذا الذي أدى إلى انتكاس الروحانية في الفلسفة وانتكاس المرجعية الدينية للفلسفة.

أصبح الغرب الحديث وخصوصا مع الفلسفات ما بعد الحداثة، يتحدث عن هذه الانتكاسة الفلسفية وقتل روح التفلسف مع أرسطو، بعدما كانت الحداثة الفلسفية تتغنى بالعقلانية الأرسطية، لكن ظهرت فلسفات في الغرب بدأت تعتبر أن العقلانية الأرسطية وما حذا حذوها هي بمثابة وأد للحكمة وللفلسفة، وهذا نجده عند الفلاسفة الألمان مثل فريدريك نيتشه وهايدغر وغيرهم، بل حتى في الأوساط الثقافية الأوربية بدأ البحث عن الروحانية خارج العقلانية الأوربية والمسيحية من خلال تبني الثقافة الشرقية وطرقها الروحانية كالبوذية والكونفوشيوسية والطاوية وحتى التصوف باعتباره طريقا للخلاص الروحي والسعادة وسبيلا كذلك للتخلص من هيمنة المادة أو الكم كما عبر عنها روني غينون رحمه الله وشيون وتشيتيك وغيرهم ممن تعمقوا في دراسة تراث الشرق من غير عصبية.




تعليقات